في الحقيقة إن لكل عملية احتيال ظروفها وأساليبها الخاصة، ولكن الثابت دائمًا هو أن هناك شخصًا أو مجموعة من الأشخاص يحاولون خداع المساهمين ليحصلوا على ما ليس لهم، وهؤلاء قد يكونون فعلوا ذلك عن عمد، معتقدين أنه لن يُكشف أمرهم أبدًا، أو أنهم وجدوا أنفسهم متورطين دون أن يدروا في مخطط احتيالي.
لا أحد مهما كان، سواء كان مديرًا أو موظفًا يرغب في أن ينتهي به الحال في السجن أو أن يظهر اسمه في عناوين الصحف مرتبطًا بتهمة الاحتيال، ورغم ذلك نجد أن هذا هو مصير عدد لا بأس به من المديرين والموظفين وخصوصًا في الدول التي تمتلك نظمًا قانونية صارمة، السؤال الآن: كيف يتحول هؤلاء من مديرين أو موظفين محترمين إلى مجرمين متهمين بالاحتيال؟
القصة التالية تجيب بشكل ما عن هذا السؤال، وتوضح كيف أن الأمر يبدأ بمجموعة من التنازلات والمخالفات الصغيرة التي تتراكم مع مرور الوقت ليتطلب إخفاؤها بعد ذلك القيام بمخالفات وتنازلات أكبر.
“اجتماعات عائلية”
في التسعينيات كانت شركة “هيلث ساوث” واحدة من أكبر مزودي خدمات الرعاية الصحية في الولايات المتحدة، كانت الشركة متخصصة في تقديم العلاج والرعاية الطبية التأهيلية للمرضى الذين يعانون من أمراض خطرة كالسكتات الدماغية والأمراض الوراثية مثل التصلب الجانبي الضموري ومرض باركنسون الناتج عن انهيار أنسجة المخ.
وبحلول عام 2000، كانت الشركة قد تحولت من مجرد شركة محلية في ولاية أركنساس إلى واحدة من أكبر مشغلي مراكز إعادة التأهيل في الولايات المتحدة، فضلًا عن امتلاكها لعدة مراكز تأهيل في المملكة المتحدة وأستراليا، وفي ذروة نجاحها، بلغت القيمة السوقية للشركة نحو 12 مليار دولار، فيما وصلت إيراداتها إلى 4 مليارات دولار.
ولكن انهار كل شيء فجأة في العام 2003، حين تم اكتشاف أن الشركة تلاعبت في بياناتها المالية من خلال المبالغة في إيراداتها بما يتراوح ما بين 3.8 مليار دولار و4.6 مليار دولارعلى مدار حوالي 5 سنوات، وعلى أساس هذه الإيرادات المزيفة، ضخ الكثير من المستثمرين أموالهم في الشركة، قبل أن يخسروها بمجرد انهيار سعر السهم.
كانت الطريقة أو المنهجية التي اتبعها مسؤولو “ساوث هيلث” بسيطة جدًا، فباختصار، إذا جاءت النتائج الحقيقية للشركة أقل من توقعات المحللين، يأمر مسؤولو “ساوث هيلث” المحاسبين بتعديلها لكي تتوافق مع تلك التوقعات، قبل أن يقوموا بنشرها للعامة بعد تعديلها.
ولم يكن لدى محاسبي الشركة مشكلة في القيام بذلك، بل حرصوا قبل خروج نتائج كل ربع أن يجتمعوا من أجل التلاعب بالنتائج في اجتماعات سموها “اجتماعات عائلية” من أجل “سد الفجوة”، وفي هذه الاجتماعات يقومون بإدخال أرقام خاطئة تضخم من الأصول والإيرادات.
محاسب لديه ضمير
الإدارة التي كانت تعلم أن المراجعين الخارجيين يركزون بشكل تلقائي على أي معاملة تزيد قيمتها على الخمسة آلاف دولار، أمرت محاسبي الشركة بأن تتراوح قيمة كل المعاملات الزائفة التي سيقومون بإدخالها في دفاتر الشركة بين 500 و4999 دولارًا.
حين نضع في اعتبارنا أن حجم الإيرادات المبالغ فيها وصل إلى ما يقرب من 5 مليارات دولار وأن متوسط قيمة المعاملة الزائفة الواحدة يبلغ 2500 دولار فهذا يعني أن محاسبي الشركة اضطروا لتسجيل نحو مليوني معاملة زائفة، وهذا بالتأكيد عمل ضخم يتطلب مجهوداً كبيراً وفي نفس الوقت مؤشر واضح على أن كثيرين في الشركة كانوا مشتركين في هذا المخطط أو لديهم علم به على الأقل.
حاول محاسب في الشركة يدعى “مايكل فاينز” تحذير أعضاء مجلس الإدارة من عواقب الطريقة التي يتم بها تسجيل المعاملات، ولكن دون فائدة، كان “فاينز” واحدًا من ثلاثة موظفين يشرفون على شراء المعدات، ورأى أن قيم الأصول المسجلة بالميزانية العمومية للشركة مبالغ فيها بشكل احتيالي.
حفاظًا على نفسه، أخبر “فاينز” رئيسته المباشرة “كاثيإدواردز” بأنه لن يقوم بتسجيل فواتير هذه الأصول في الميزانية ما لم تقم هي بالتوقيع باسمها عليها، رغبة منه في أن تتحمل هي المسؤولية، ووقعت “كاثي” بالفعل على الفواتير، بل وذهبت إلى أبعد من ذلك حين قامت بتزوير فواتير وتقديمها إلى المراجعين لكي تبدو المعاملات المزيفة حقيقية.
في عام 1999 استقال “فاينز” من منصبه وانتقل للعمل في شركة أخرى، وحينها قرر إرسال بريد إلكتروني إلى شركة المراجعة “آرنست آند يونج” يخبرها فيه بالأرقام والمدخلات المزيفة، ونصحها بالتدقيق في 3 حسابات محددة، على الفور، اتصلت شركة المراجعة بالمدير المالي لـ”ساوث هيلث” ليخبرها الأخير بأن “فاينز” ما هو إلا موظف ساخط وحاقد، وبناءً على هذا الرد أغلقت “إرنست آند يونج” المسألة.
خلف القضبان
كان المدير المالي للشركة ونائب رئيسها “هانيبالسونيكرومبل” مشاركًا متطوعًا في خطة الاحتيال منذ بدايتها. فقد كان حريصًا على حضور “الاجتماعات العائلية” والأكثر من ذلك هو أنه كان يأخذ أحيانًا بعض الدفاتر إلى منزله بعد انتهاء الاجتماعات كي يحدد أفضل مكان توضع فيه الأرقام المزيفة، وبمجرد أن يحددها يوجه محاسبي الشركة لدفن الأرقام فيها.
بفضله تمكنت “ساوث هيلث” من زيادة إيراداتها على الورق، من خلال المبالغة في الأصول وخفض قيمة الخصوم، لكي تبقى الميزانية متوازنة، وقد تم ذلك عن طريق زيادة قيمة الممتلكات والمنشآت والمعدات ولكن إلى حد معين حتى لا يثير ذلك انتباه المراجعين، وهكذا تمكنوا على مدار عدة سنوات من زيادة قيمة أصول الشركة بأكثر من 50% من قيمتها الحقيقية.
لكن لكل شيء نهاية، وكانت نهاية هؤلاء في عام 2003 بعد أن قام مكتب التحقيقات الفيدرالي بمداهمة مقر الشركة ومصادرة كل المستندات الموجودة وذلك على إثر بلاغ تقدم به موظف سابق بالشركة يدعى “ويستون سميث”. وبعد الفحص والتدقيق في الأوراق والمستندات اكتشفت الفضيحة الكبيرة.
وُجهت إلى الرئيس التنفيذي للشركة “ريتشاردسكروشي” عدة تهم من بينها الاحتيال والإدلاء بتصريحات كاذبة قبل أن يحكم عليه بالسجن لمدة 82 شهرًا بالإضافة إلى تغريمه 2.9 مليار دولار، ليفقد كل ثروته تقريبًا ويدخل في وضع مالي صعب يكون فيه عاجزًا حتى عن دفع تكاليف إقامته بالسجن.
أما المدير المالي للشركة “هانيبالسونيكرومبل” فقد كانت عقوبته هي الأغلظ بين كل المتورطين في تلك القضية، حيث حكم عليه بالسجن لمدة 8 سنوات، وذلك مقارنة مع 4 سنوات حصلت عليها “كاثي إدواردز”.
بالمقارنة مع 30.56 دولار في عام 1998، فقد سهم “هيلث ساوث” الذي تم تعليق تداوله ما يقرب من 100% من قيمته ليصل في السادس والعشرين من مارس 2003 – أي بعد أيام من انكشاف الفضيحة – إلى 11 سنتًا فقط، وهكذا خسر المساهمون أموالهم إلى الأبد.