من بين الإفصاحات المهمة التي تبنتها الشركات والبورصات في السنوات القليلة الماضية، كان تقرير «الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات»ESG، وذلك في إطار تعزيز الشفافية التي تتحلى بها هذه المؤسسات، وعلى جانب آخر إظهار مشاركة في القضايا الاجتماعية.
وتهدف مثل هذه التقارير في المقام الأول، إلى تعزيز الوعي بأهمية ومزايا الاستدامة والإفصاح، وحث الشركات المدرجة على تبني قضايا الاستدامة، وفي هذا الصدد، سعت أسواق مالية عدة إلى إصدار معايير الإفصاح الخاصة بها.
ليس ذلك فحسب، إذ يرى المسؤولون أيضا أن مفهوم «الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات»، يساهم بطريقة ما في تعزيز عمل الأسواق المالية، وذلك بما يخدم في الوقت ذاته النمو المستدام.
لكن الأمر تخطى الآن كونه مجرد إفصاح عن جهود المؤسسات في تبني هذه المفاهيم، حيث أصبحت فئة الشركات التي تصنف تحت هذا البند «الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات»، تحظى باهتمام كبير للغاية من المستثمرين العالميين وتجذب التمويل على نحو متزايد.
ويعطي هذا النوع من الاستثمار، الأولوية للمساهمات الإيجابية في المجتمع والبيئة والتأثير الاجتماعي، وتسمح الشركات في هذه الفئة للمستثمرين الواعين اجتماعيا بفحص الاستثمارات المحتملة للتأكد من أنها تلائم أهدافهم وقيمهم الاستثمارية.
اتجاه عالمي
على الصعيد العالمي، شهدت صناديق أسهم شركات الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، التي تعرف اختصارا باسم «إي إس جي»، دخول تدفقات نقدية صافية قدرها 62 مليارا منذ بداية العام، بزيادة 135% عن الفترة نفسها من العام السابق، وفقا لتحليل «بنك أوف أميركا».
بعبارة أخرى، يعني هذا أن 4 دولارات من كل 10 دولارات من تدفقات الأسهم العالمية تتجه الآن نحو شركات «إي إس جي»، وسواء اختلف البعض حول ما إذا كانت هذه الأموال تذهب إلى شركات جديرة، لكن من المؤكد أن لها تأثيرا.
ورغم أنه اتجاه عالمي، كانت منطقة اسيا والمحيط الهادي ، البقعة اللامعة في هذا المجال، حيث سرعت المؤسسات الاستثمارية من وتيرة استثماراتها التي تراعي هذا الجانب من الحوكمة في عام 2020، رغم ضغوط الجائحة.
وفقا لمسح أجرته «إم سي إس آي» حول توجهات المؤسسات الاستثمارية، تبين أن 79% منها في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، زادت استثماراتها في مجال الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، مقارنة بنسبة 77% على الصعيد العالمي.
في الوقت نفسه، يتوقع 57% من مستثمري آسيا والمحيط الهادئ أن يكونوا قد أدمجوا «بشكل كامل» أو «إلى حد كبير» قضايا حوكمة «إي إس جي» في تحليل استثماراتهم وعمليات صنع القرار بحلول نهاية عام 2021.
شهد عام 2020 تحولا عميقا في الطريقة التي تستثمر بها المؤسسات، حيث أدرك العديد من المستثمرين أن الكثير من الشركات التي لديها ممارسات بيئية واجتماعية وحوكمة قوية تفوقت خلال الوباء، بحسب «إم سي إس آي».
تحول عميق
«Emerson Electric»، هي شركة أميركية لاتزال تجني الكثير من أموالها عبر بيع المعدات للصناعات المرتبطة بالوقود الأحفوري، ومؤخرا، خصصت جزءا كاملا خلال حدث «يوم المستثمر» للحديث عن الاستدامة.
التزمت الشركة بخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري كنسبة مئوية من الإيرادات بنسبة 20% بحلول عام 2028، وسلطت الضوء على التقنيات التي تعمل عليها لدعم الطاقة الشمسية والهيدروجين والغاز الطبيعي المتجدد.
وعندما وافقت شركة «Ingersoll Rand» الأميركية على بيع أعمال المضخات عالية الضغط التي تحتاجها شركات التنقيب النفطي، سلط الرئيس التنفيذي «فيسنتي رينال» الضوء على كيفية تسريع الصفقة لالتزامات الشركة بشأن معايير «إي إس جي».
وطرحت الشركة أهدافا جديدة للاستدامة، بما في ذلك الانتقال إلى الطاقة المتجددة بنسبة 100% بحلول عام 2050 وتقليل تأثير منتجات «إنجرسول راند» على انبعاثات العملاء بنسبة تزيد على 15% بحلول عام 2030.
وقالت ذراع الخدمات اللوجستية لشركة «Blackstone Group»، وهي واحدة من أكبر مشغلي المنشآت الصناعية، إنها ستكون بلا انبعاثات كربونية بحلول عام 2025 بفضل الاستثمارات في الكهرباء المتجددة، في جهود تحول تبدأ من شهر يناير الماضي.
ويرى «جوردان والدرب» كبير مسؤولي الاستثمار في «TrueMark Investments» لإدارة الأصول، أنه بعد 10 سنوات من الآن، سيكون مؤشر «إس آند بي 500» بمنزلة محفظة أفضل من أي شيء موجود الآن للحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية.
تأثير بايدن
بدا الرئيس الأميركي «جو بايدن»، أكثر حرصا على جعل تغير المناخ موضوعا رئيسيا خلال رئاسته الحالية للولايات المتحدة، ولكن بالنسبة للأسواق المالية، فإن التأثير يتجاوز المناخ، وقد لاحظ المستثمرون خطط بايدن المناخية في وقت مبكر قبل الانتخابات الأميركية.
وتفوقت أعمال الطاقة المتجددة والأصول الخالية من الوقود الأحفوري على السوق الأوسع نطاقا، منذ انطلاق الحملة الرئاسية الصيف الماضي بشكل جدي، وفي المقابل، أولت الأسواق اهتماما أقل لموضوعات الحوكمة، وذلك لربما بسبب قيود الإدارة السابقة.
مع ذلك، بدأت إدارة بايدن في التراجع عن المبادرات التي أطلقت خلال عهد دونالد ترامب، حيث كان هناك توجه تنظيمي لتهميش الاستثمار في أعمال «إي إس جي»، وأصبح من الصعب على مديري الأصول دمج المعايير غير المالية في اختياراتهم.
وتضمنت الجهود الأخرى قيودا على معايير الإقراض المصرفي التي كان من شأنها استبعاد أو رفع تكلفة رأس المال لكيانات الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية منخفضة التصنيف.
ورغم ذلك، فإن الأوامر التنفيذية الصادرة من بايدن حتى الآن، بالكاد ستعيد الظروف إلى ما كانت عليه في 2016 بدلا من تحسينها، وستكون الإجراءات الرئيسية التي يجب مراقبتها هي تلك التي من شأنها تحفيز السوق بشكل فعال إلى ما أبعد من وضعه الحالي.
لذا يبدو من المرجح أن يستخدم بايدن المنبر الرئاسي ونفوذ الحكومة لتشجيع تعميق أسرع في مجال الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، ويمكن أن يحدث هذا من خلال تسليط الضوء الملائم على المؤشرات الخاصة به وتعزيز الإفصاحات الشاملة، كما يحدث في القضايا المتعلقة بالمناخ.