( ألمانيا ) غير مستعدة للتماثل الاستراتيجي
تلوح أزمة مزدوجة في الأفق بسبب الصين وروسيا بدءاً من السنة المقبلة، لكن السياسيين الألمان الذين يتنافسون على منصب أنجيلا ميركل لم يقدّموا أي أجوبة عن أبرز الأسئلة الشائكة، حتى أنهم لا يعترفون بضرورة وضع استراتيجية طويلة الأمد.
لنتخيل أننا انتقلنا إلى تاريخ 5 مايو 2022 حيث تحصل الأحداث المحتملة التالية: يوشك العالم على مواجهة فوضى عارمة مجدداً. مرّ شهران منذ أن أدى هجوم إلكتروني قوي ضد مقر “شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات” إلى تجميد قطاع الإنتاج، وفي حين توشك إمدادات أشباه الموصلات العالمية على الانهيار، تواجه جميع قطاعات الاقتصاد الألماني مشاكل كبرى، وتأثّر مصنّعو الهواتف الذكية وأجهزة التوجيه والسيارات والثلاجات بتباطؤ الإنتاج وإعاقة عمليات التسليم، وشهدت الأسعار ارتفاعاً هائلاً، وتُعتبر خسائر الإنتاج في شركة الرقائق التايوانية العملاقة مسيئة إلى القطاع، ويدعو رؤساء أبرز شركات السيارات والإلكترونيات في ألمانيا مكتب المستشار الألماني إلى التحرك لإنقاذ الوضع.
في واشنطن، يتّهم الكونغرس الصين بتنظيم اعتداءات إلكترونية ضد “شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات” لفرض إعادة توحيد الجزيرة مع بر الصين الرئيسي، وتنكر بكين هذه الادعاءات بقوة وتُسلّط الضوء من جهتها على “الوجود غير القانوني” للقوات البحرية الغربية في مضيق تايوان، وإذا لم تنسحب تلك القوات فوراً، فسيضطر خفر السواحل الصينيون لممارسة حقهم في الدفاع عن نفسهم، وتشارك فرقاطة ألمانية في التدريبات البحرية الغربية.
في الوقت نفسه، يلوح وضع خطير آخر في الأفق على حدود بولندا الشرقية، فبعد وفاة الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، في توقيت غير متوقّع، بدأت موسكو تحشد آلاف الجنود على طول حدودها مع بولندا وليتوانيا، واستُعمِلت معدات ثقيلة في المنطقة الروسية العسكرية الغربية في المعزل الروسي في “كالينينغراد”، حيث يبرر الرئيس فلاديمير بوتين الحشد العسكري الذي ينفذه بلده، فيزعم أن بيلاروسيا باتت مُعرّضة لـ”ثورة ملوّنة” مدعومة من الغرب، وتشعر الحكومات في وارسو وتالين وفيلنيوس وريغا بقلق شديد بسبب توسّع الوجود العسكري الروسي على حدودها، وخوفاً من أن تغزو موسكو ممر “سوالكي” البولندي الذي يفصل منطقة البلطيق عن بقية دول حلف الناتو، ينوي الحلفاء في الجناح الشرقي اقتراح تفعيل المادة الخامسة رسمياً، أي “بند الدفاع الجماعي” في الحلف، خلال اجتماع خاص وعاجل في مجلس شمال الأطلسي.
كيف يُعقَل أن تتعامل حكومة الائتلاف المُنتخَبة حديثاً في برلين مع هذا النوع من السيناريوهات المحتملة؟ هل ستوافق على تفعيل بند المساعدات المتبادلة في ميثاق حلف الناتو وتقرر تحديث الوحدة الألمانية في ليتوانيا؟ وما الخيارات التي تملكها لفرض ضغوط سياسية على الصين، ومنع أي تصعيد عسكري محتمل في مضيق تايوان، وتخفيف العواقب الاقتصادية لأي نقص في الرقائق الدقيقة؟ وما التوقعات التي يُفترض أن تحملها برلين من الاتحاد الأوروبي وشركائها في الناتو؟
الأفكار الألمانية قيد التشكيك
لكل من يريد تحديد مسار ألمانيا السياسي وضمان وصوله إلى منصب المستشار الألماني، ثمة حاجة إلى مناقشة سيناريو “التماثل الاستراتيجي” بجدّية.
أولاً، قد يصبح هذا التمرين العقلي مفيداً جداً للتأكد من الرأي الذي يحمله كل طرف حول اثنتَين من كبريات القوى القارية في العالم وأهدافهما الوطنية وقدراتهما، فهل سيقيّم قادة ألمانيا المستقبليون طموحات روسيا والصين العالمية على المدى الطويل مقارنةً بالطموحات الغربية بطريقة منطقية وواقعية؟ وهل يدرك المرشحون الألمان أن الديمقراطيات الغربية باتت مضطرة، للمرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة، للتكيف مع منافستَين استراتيجيَتين قويتَين، لا منافِسة واحدة؟
لا يمكن مقارنة التحديات الاستراتيجية بتهديدات أمنية أخرى مثل الإرهاب أو زعزعة الاستقرار على الحدود الخارجية لأوروبا، كما تعارض الصين وروسيا بكل وضوح النظام الليبرالي الديمقراطي الغربي، فأعلنت الصين رسمياً أنها تسعى إلى التفوق على الولايات المتحدة في مجالات أساسية من سلطة الدولة خلال العقدين المقبلين، وفي المستقبل المنظور، قد تنافس القدرات العسكرية الصينية المتزايدة مكانة واشنطن كقوة عظمى، يُفترض أن يعتبر صانعو السياسة الألمان طبيعة مهام جيش التحرير الشعبي الصيني جرس إنذار لهم، لا سيما سعيه إلى حماية المصالح الاقتصادية الوطنية في الخارج، بما في ذلك داخل أوروبا.
في المقابل، لا تملك روسيا بقيادة بوتين المستوى نفسه من القوة الصلبة والناعمة لتحقيق أهدافها الوطنية، لكن بدعمٍ من القوى التقليدية المستحدثة والترسانة النووية وتزامناً مع زيادة اتكال أوروبا عليها في مجال الطاقة، نجحت موسكو في ترجيح الميزان الاستراتيجي داخل أوروبا لصالحها خلال العقد الماضي، ومن وجهة نظر الكرملين، أثبت استعمال الوسائل الهجينة لزعزعة استقرار الدول الغربية المجاورة فاعليته تزامناً مع البقاء تحت عتبة الاشتباك العسكري المباشر.
في السنوات الأخيرة، أصبحت الشراكة الاستراتيجية بين روسيا والصين وثيقة أكثر من أي وقت مضى، بحيث تتماشى سياسة “استرجاع العَظَمة الروسية” التي طرحها بوتين مع شعار الرئيس الصيني شي جين بينغ حول “تجديد الأمة الصينية العظيمة، وهو أعظم حلم لدى جميع الصينيين في العصر الحديث”، ومن المتوقع أن يصبح التنسيق بين المصالح الاستراتيجية للبلدَين القاعدة المعتمدة مستقبلاً، مما ينذر بظهور عواقب متعددة الأوجه على مستوى استقرار النظام الدولي.
ثانياً، يجب أن يدرك المرشحون الألمان أن تصريحاتهم السياسية وتحركاتهم الملموسة تخضع لتحليل دقيق في موسكو وبكين، وتهتم روسيا والصين تحديداً بتقييم قدرة الحكومة الجديدة على التفكير والتخطيط واتخاذ خطوات استراتيجية، فما الأفكار التي ينوي الشركاء المحتملون في حكومة الائتلاف تنفيذها على المدى الطويل لحماية المصالح الألمانية والأوروبية؟ وإلى أي حد سيكونون مستعدين سياسياً للتحرك بطريقة سريعة وحاسمة؟ وما الأدوات والقدرات التي سيستعملونها على الأرجح لتحقيق الأهداف الألمانية الاستراتيجية ونشر القيم الأوروبية؟
تستطيع الأطراف التي تبحث عن أجوبة عن هذه الأسئلة في موسكو وبكين أن تسترخي لأن أبرز الأحزاب الألمانية لم تُطوّر حتى الآن أي نوع من العقلية الاستراتيجية، وعملياً، تعهد الاتحاد الديمقراطي المسيحي، والحزب الاشتراكي الديمقراطي، وحزب الخضر، والحزب الديمقراطي الحر بالالتزام بالشراكة العابرة للأطلسي، ورغم وجود بعض الاختلافات البسيطة في مواقف الأحزاب، تدعو هذه الأطراف كلها إلى زيادة قدرات أوروبا وتعزيز تماسكها، لكن لا تزال الحلول الملموسة التي تسمح بتحقيق هذه الأهداف عشوائية وغير واضحة.
جاهزية الحزب الاشتراكي الديمقراطي للحوار
في البيان الانتخابي الخاص بالحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي اختار وزير المالية، أولاف شولتس، مرشّحاً عنه في السنة الماضية، تَقِلّ المراجع الملموسة حول زيادة التوتر بين الغرب من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى، وتتعرّض تصرفات الصين في هونغ كونغ وضغوطها المتزايدة على تايوان للنقد، ويُسلَّط الضوء أيضاً على القمع الصيني لمسلمي الإيغور وانتهاكات أخرى يرتكبها البلد في مجال حقوق الإنسان. من وجهة نظر الحزب الاشتراكي الديمقراطي، يجب أن “تبدي أوروبا استعدادها للتحاور مع الصين حول التعاون والمنافسة بطريقة بناءة ونقدية في آن”، لكن لم يتّضح بعد المعنى الدقيق لهذه العبارة.
في ما يخص روسيا، يتمسك الحزب الاشتراكي الديمقراطي عموماً بفلسفة الانفراج التقليدية، فيذكر في بيانه الانتخابي: “رغم جميع الانتقادات الضرورية، نحن ملتزمون بالمشاركة في الحوار والتعاون مع روسيا”، ويُفترض أن يكون التواصل مع المجتمع المدني وتسهيل إجراءات التأشيرة لفئة الشباب مفيدَين في هذا المجال، ويمكن اعتبار التواصل الشخصي إيجابياً في جميع الحالات، لكن من المستبعد أن تثني هذه الخطوات الكرملين عن طموحاته الاستراتيجية، كذلك، تطرح الرسائل التي يوجّهها قادة بارزون في الحزب الاشتراكي الديمقراطي إشكالية كبرى، فهي لا تدعم صراحةً وحدة الغرب التي يتكلم عنها الجميع، ويمكن إيجاد هذه الرسائل مثلاً في مواقف رئيسة وزراء ولاية “مكلنبورغ فوربومرن”، مانويلا شفسيغ، التي قبلت مساعدات مالية كبرى من شركة “غازبروم” الروسية والمملوكة للدولة كي تتمكن من متابعة بناء خط الأنابيب “نورد ستريم 2″، كذلك، دعا نظيرها مايكل كريتشمر من الاتحاد الديمقراطي المسيحي في ولاية “ساكسونيا” الرئيس فلاديمير بوتين إلى زيارة “دريسدن”.
لقد تراجعت أهمية مقولة شائعة تنذر باستحالة الفوز في الانتخابات بناءً على مسائل السياسة الخارجية والأمنية في عصر العولمة الراهن، ومن المتوقع أن تزيد روسيا والصين الضغوط على الغرب مستقبلاً، فردياً وجماعياً، باعتبارهما “ثنائياً استراتيجياً”، في حين تُقدّم لهما المجتمعات الغربية المنفتحة والديمقراطية أهدافاً قيّمة، وخلال السنوات المقبلة، سيضطر الغرب للسيطرة على علاقته الصدامية مع موسكو والتحكم بالاضطرابات الناجمة عن الخصومة الاستراتيجية وزيادة الاتكال على بكين.
أصبحت العناصر الأساسية من أي استراتيجية طويلة الأمد تجاه روسيا والصين واضحة، وهي تشمل اكتساب قدرة استراتيجية كبرى على استباق الأحداث تزامناً مع إجراء تدريبات منتظمة، وتحديد مخاطر الأمن القومي الناجمة في المقام الأول عن تنامي التأثير الاقتصادي والتكنولوجي الصيني في ألمانيا، وتعزيز المرونة في أهم المجالات والبنى التحتية الخاصة بتكنولوجيا المعلومات، وتحديث القدرات العسكرية الوطنية بطريقة مستهدفة، وإثبات استعداد البلد للدفاع عن القيم الديمقراطية ومتابعة التحاور والتعاون، طالما تتماشى هذه المقاربة مع المصالح الألمانية والأوروبية.
تتعلق أول خطوة مهمة في هذا المجال بأن يفهم قادة الأحزاب الألمانية حاجة ألمانيا العاجلة إلى هذا النوع من الاستراتيجيات على المدى الطويل.