( روسيا ) معضلة الماضي والمستقبل بالنسبة للغرب
تظل الخلافات بين الغرب وروسيا مشكلة تؤرق كلا الجانبين، في ظل التباين بالمصالح تارة والصراع على النفوذ تارة أخرى.
في هذا الإطار، قال الكاتب والصحافي الأميركي روبرت كابلان، الخبير بمعهد أبحاث السياسة الخارجية بالولايات المتحدة في تقرير نشرته مجلة «ناشونال إنتريست»، إن كفاح الغرب وإحباطاته وإخفاقاته وأحلامه فيما يتعلق بروسيا جزء من قصة قديمة، وإنها ستستمر في المستقبل.
ويضيف أن قدرة روسيا على تشكيل عالمنا الجيوسياسي ليست جديدة، وكانت هزيمة روسيا القيصرية على يد ألمانيا هي التي عجلت بالثورة الروسية التي غيرت، في المقابل، القرن العشرين بشكل جذري. وأدى انتصار الاتحاد السوڤييتي في ستالينغراد عام 1943 في النهاية إلى هزيمة الزعيم النازي أدولف هتلر وانقسام أوروبا في إطار الحرب الباردة.
ويرى كابلان أن الاتحاد السوڤييتي شكل عنصرا أساسيا فيما آلت إليه نتائج الحرب العالمية الثانية، بدرجة لم تصل إليها الولايات المتحدة. ثم كان الانهيار الداخلي للاتحاد السوفييتي هو الذي وصل بالحرب الباردة إلى نهاية مظفرة للغرب.
وكان فشل الغرب بتسعينيات القرن الماضي في إعادة تشكيل روسيا المهزومة بقوة على شاكلته من الناحيتين السياسية والاقتصادية، وهو إخفاق يعادل في نطاقه فشل نابليون بونابرت، هو الذي أدى مباشرة إلى وجود نظام ڤلاديمير بوتين الاستبدادي الانتقامي.
وأثبتت روسيا دائما أنها جسر بعيد للغاية عما يصممه الغرب الحديث. وهذه نقطة يعتقد كابلان أنه لابد من قبولها، فإدانة بوتين بسبب انتهاكاته لحقوق الإنسان هي مجرد أسلوب لبق، لكنه لن يذهب بنا بعيدا فيما يتعلق بمواجهة معضلة روسيا الأبدية.
والحقيقة المؤلمة هي أنه لا يجب ردع بوتين وإدانته أخلاقيا فحسب، بل يجب الانخراط معه أيضا، «لأن فرص تغيير نظامه على شاكلتنا الغربية هي على الأرجح مثل إعادة تشكيل روسيا في التسعينيات، أو قيام نابليون أو هتلر بإضافة روسيا إلى إمبراطوريتهما». وتتشابك روسيا مع أبرز الجهات الفاعلة على المستوى الجيوسياسي في العالم، فهي مهمة لألمانيا، أقوى دول الاتحاد الأوروبي.
ويريد الألمان من روسيا استكمال خط أنابيب الغاز الطبيعي «نورد ستريم 2»، ليس لأنه حيوي بالضرورة للاقتصاد الألماني، حيث يمكن للألمان إذا لزم الأمر الحصول على الغاز من شبكة خطوط الأنابيب الناشئة بالبحر المتوسط وأيضا من أميركا الشمالية عن طريق محطات تحويل الغاز الطبيعي، بل يرغب الألمان في ذلك المشروع لأنه سيزودهم بإمدادات طاقة رخيصة ومباشرة نسبيا ويثبت علاقتهم السياسية مع روسيا، البلد الذي يعتبرونه أكبر من أن يتغير أو يهزم.
وقد وصل الألمان إلى صيغة للتعامل مع روسيا، حيث قاموا بما في وسعهم لدعم المعارض الروسي أليكسي ناڤالني ضد بوتين، لكن دون إلغاء مشروع «نورد ستريم 2»، وهذه استراتيجية يمكن لبوتين التعايش معها، بحسب الكاتب.
ويدرك الألمان أن هناك حدودا لما يمكن تحقيقه مع روسيا، حتى وهم يعرفون أنهم لا يواجهون تهديدا عسكريا من ناحيتها «ويعكس السلوك الألماني الواقع المأساوي الأساسي للعالم، وهو الاعتراف العلني بحقوق الإنسان، والمدعوم بسياسة واقعية غير معلنة وقاسية».
ويرى كابلان أن الأمريكيين يخدعون أنفسهم بالنظر إلى روسيا على أنها قوة متدهورة، وبالتالي يعتقدون أنه ليس عليهم أن يتصالحوا معها كما فعل الألمان.
ويشير إلى أنه لا ينبغي استبعاد القوة الروسية، فبالإضافة إلى قدرتها الواضحة على شن هجمات إلكترونية ضخمة، والتدخل في العملية الانتخابية الأميركية، وتزويد جزء كبير من العالم بالنفط والغاز، تعد روسيا أيضا أكبر مصدر للحبوب في العالم.
علاوة على ذلك، تبيع روسيا على نطاق واسع محطات الطاقة النووية ومواد البناء والنيكل والألماس ومعدات التعدين المتقدمة والأسلحة عالية التقنية، وفقا لكاثرين ستونر، الخبيرة في الشؤون الروسية ونائبة مدير معهد فريمان سبوجلي بستانفورد.
ودخول روسيا إلى الشرق الأوسط يدل على قوة عظمى صاعدة، وليست منحدرة. وقد افترض الأميركيون ذات مرة أن تورط موسكو العسكري في سورية سيكون بمنزلة عقاب لها بنفس الطريقة التي يعاقب العراق الأميركيين، لكن الروس تعلموا درسا مختلفا مفاده عدم الدفع بأعداد كبيرة من القوات البرية بحيث يكون ثمن المغامرة العسكرية في هذا العالم منخفضا للغاية في الواقع، وهو أمر يمكن تطبيقه بشكل مفيد في التدخلات المستقبلية.
ويرى الكاتب أن روسيا ليست على وشك الانهيار، أو حتى يمكن إخضاعها بشكل كبير، وسيستمر بوتين في تحسس الفرص حيثما رآها سانحة، وحتى إذا أصيب بوتين بمرض أو ترك السلطة، فمن الخطير الافتراض بالضرورة أن نظاما أفضل سيتبعه، ويمكن أن تنهار روسيا أو تسقط في أيدي قوميين متحمسين أقل مسؤولية من الزعيم الحالي.
وبحسب كابلان، يعد الوضع الآن بين الولايات المتحدة وروسيا غير مستقر على نحو خاص، ويعود ذلك جزئيا إلى أن الغرب وسع نطاق حلف شمال الأطلسي (ناتو) في جميع أنحاء حلف وارسو السابق لأنه وسع عضويته على وجه التحديد لتشمل دول البلطيق الثلاث التي كانت في السابق جزءا من الاتحاد السوڤييتي، وحدودها قريبة بشكل خطير من سانت بطرسبيرغ وموسكو، وهذا في نظر بوتين يعد استفزازا تاريخيا وجغرافيا يجب أن يعمل باستمرار على تقويضه.
وبشكل عام، تتمثل استراتيجية روسيا، في أن تستعيد بشكل ما حدود الاتحاد السوفييتي القديم ومناطق الظل الخاصة به. وهدف الغرب هو ثنيها عن ذلك.
لكن نظرا لأن هذه ستكون عملية طويلة، ومن دون فائز واضح، فإن للديبلوماسية والتسوية دورا مهما، لأنه حتى في ظل وجود نظام روسي أكثر ليبرالية ستظل موسكو لديها مصلحة ذاتية في توسيع نفوذها خارج مناطقها الحدودية.