أخبارفنون

ملك القدود وسيد الموشحات وحارس التراث (7-13)

ما بين ألقابه المتعددة، وأعماله الخالدة، وألحانه الطريفة والتالدة، يقف صوته معلناً عن نفسه بالتفرد، محتلاً ساحة الطرب، حتى صار زرياب العصر ومبعث الفخر، فقد ولد عملاقاً في زمن العمالقة، في وقت كان من الصعب على أي إنسان أن يحجز لنفسه مكاناً بين النجوم، لكنه عزف منفرداً فأبدع، وغنى فأطرب، وعاش مكرساً حياته لأجل التراث والفن الأصيل، وحاملاً الراية عالياً بكل ثقة، منذ أول صرخة في حياته وحتى الآن. إنه صاحب الصوت الفاخر، ملك القدود الحلبية، ابن حلب الشهباء التي ترى وتسمع في آن، إنه «قلعة حلب الثانية» وأجمل قطوف الطرب الدانية… إنه صباح فخري، صاحب السيرة الطربية، نجم الموال وملك القدود، الذي يسعدنا  أن تفرد له هذه المساحة، لتنثر على قرائها عبيراً من سيرته.

فخري سجل في «نغم الأمس» نحو 160 مقطوعة من القوالب الغنائية

• فاصل «اسقِ العطاش» التراثي تفرد به صباح في الحلقة الأخيرة من البرنامج

تمكن صباح فخري، بعد افتتاح التلفزيون في الستينيات والمشاركة بعدة أعمال تلفزيونية من برامج ومسلسلات وأفلام، أن يوثق جزءاً من التراث الغنائي العربي الأصيل، كما تمنى، مثلما رأينا في برامج «نغم الأمس» و«الوادي الكبير» وغيرها، لتكون مرجعا لكل من يريد أن ينهل من هذا الفن من كل جيل عبر كل زمان.

نغم الأمس

شارك فخري، بعد افتتاح التلفزيون سنة 1960، في العديد من السهرات والبرامج والمسلسلات والأفلام، ومنها برنامج «نغم الأمس». وفي هذه المشاركات قدم أغنيات كثيرة متعددة في القوالب الغنائية التقليدية؛ كالموشحات والقصائد والأدوار والقدود الحلبية والمواويل والأغاني الشعبية الفلكلورية والمدائح الدينية، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، فقد قام بتوثيق تلك الأعمال الغنائية التقليدية في المسلسل التلفزيوني «نغم الأمس».

سجّل صباح ما يقرب من مئة وستين مقطوعة من القوالب الغنائية العربية، وقام بشرح مفصل لكل تلك القوالب، بقصد تثبيتها وأرشفتها، لتبقى راسخة في أذهان المستمعين، وبذلك أصبح هذا المسلسل التلفزيوني «نغم الأمس»، الذي يحوي أروع الألحان والأنغام الشرقية الأصيلة، التي أحبها ورددها الناس في جميع أرجاء الوطن العربي بعد أن غناها صباح فخري، مرجعاً هاماً بالنسبة للمشتغل في الموسيقى العربية، وكذلك المستمع العادي.

أما بالنسبة لمضامين تلك الأغنيات، فإنها تمحورت في الغالب حول العلاقات الإنسانية، فلم تخرج عن نطاق دعوات المحبة بمختلف أشكالها ومستوياتها: محبة الرجل والمرأة في الغزل خاصة، وفي المدونة الشعرية العربية قديمها وحديثها عدد لا بأس به من هذه الأشعار، كذلك محبة الإنسان لأخيه الإنسان، سواء في إطار قبلي ضيق على غرار الإطار العربي التقليدي بالشام، سورية اليوم، أو في إطار قومي عربي، أو في إطار عالمي إنساني.

ومما لا شك فيه أن هذا الإطار الأخير يعتبر من أهم الأطر التي صبغت العلاقات بين الدول والشعوب في فترة الستينيات، ذلك أن العالم أخذ يشهد تغيرات مهمة في مستوى العلاقات بين شقه المتقدم المتطور وشقه المتخلف النامي، وكان الإشكال المطروح في مستوى الثقافة والفن أيّ دور يستطيع أن يلعبه الفن في تقريب الثقة بين الطرفين؟ ويبدو أن هذا الإشكال لم يغب عن تفكير صباح فخري، كما يبدو أنه اختار لنفسه طريقا وعرة للقيام بهذا الدور، وتتمثل هذه الطريق في غناء وجمع التراث الغنائي العربي وحمايته وتوثيقه، والتمسك بأصول الفن العربي أو بالهوية العربية التقليدية. وعلى الرغم مما تمثله هذه الطريق من معوقات في طليعتها عائق اللغة، فقد تمسك صباح فخري بهذا المسلك واستطاع عبره أن يصل إلى الشهرة العالمية، مؤكدا بذلك صواب اختياراته وتحقيقها للغاية المنشودة، وهي تبليغ الرسالة.

«شركة دمشق تقدم من تراثها الخالد البرنامج الغنائي (نغم الأمس)، ويحوي أروع الأنغام والألحان الشرقية الأصيلة، التي أحبها ورددها الناس في جميع أرجاء وطننا العربي، وبصوت صناجة الغناء العربي صباح فخري»… هذه مقدمة برنامج نغم الأمس، الذي صدح فيه صوت صباح فخري محافظا على التراث العربي، وكانت فكرة هذا البرنامج للمخرج «جميل ولاية»، والبرنامج عبارة عن مسلسل تلفزيوني مؤلف من ثلاث عشرة حلقة تحكي كل حلقة فيه قصة حب، أو حكاية نغمة، أو قراءة عن موشح، ولكل منها عنوان كالغيرة والأبواب المغلقة والخمار الأسود ورسالة حب وغيرها، والحلقة الرابعة عشرة والأخيرة حملت عنوان «اسقي العطاش»، وقد أضافها صباح إلى البرنامج.

«اسقِ العطاش»

يعود هذا الفاصل إلى مئات السنين، ألفه ولحنه الشيخ محمد المنجي الحلبي، وهذا الفاصل من رقصات السماح المشهورة، واعتبر نوعا خاصا، وسمي أيضا «اسق العطاش»، وهي سلسلة موشحات من نغمة الحجاز يستغرق إنشادها من المساء حتى مطلع الفجر، فهذا الفاصل حلبي صرف، يدلل على أن أهل حلب اعتنوا بالألفاظ ونمقوها، وأنهم ذوو حس ذوقي رفيع، ولهم دراية في النظم والتلحين.

ينحبس المطر فتصاب حلب بقحط شديد، لذا يتجمع أهلها ويخرجون إلى البراري يتضرعون ويبتهلون إلى الله أن يجود عليهم بالغيث، مرددين: مولاي أجفاني جفاهن الكرى … والشوق لاعجه بقلبي خيما

يا ذا العطا… يا ذا الوفا… يا ذا الرضا… يا ذا السخا… اسق العطاش تكرما … فالعقل طاش من الظما … غث اللهفان واروِ الظمآن

فهو في مضمونه ابتهال إلى الله لاستسقاء المطر، بعد احتباسه سنة كاملة، ويتابع المنشد بنغمة التضرع والاستغاثة، ارتجال عدد من الأبيات الشعرية الفصيحة التي تبتهل إلى الله، طالباً الصفح والغفران عما اقترف من ذنوب. الفاصل طويل يستغرق ثلاث أو أربع ساعات، ويقدم ناقصا أو على شكل فقرات، إلى أن قام الفنان صباح باختيار ساعة منه وتسجيله في آخر حلقة من حلقات برنامج «نغم الأمس».

الوادي الكبير

شارك صباح فخري في المسلسل الاستعراضي الغنائي «الوادي الكبير» عام 1974، حيث قدمه فخري مع عدد من الفنانين والفنانات، وخصوصاً مع وردة الجزائرية نجمة المسلسل. أخرج العمل إيلي سعادة، وكتب قصته والسيناريو والحوار نزار مؤيد العظم، وصاغ ألحانه كل من بليغ حمدي وعزيز غنام وعدنان أبوالشامات وإبراهيم جودت وأمين الخياط، وشارك فيه نخبة من الفنانين تتقدمهم الراحلة وردة الجزائرية، وهالة شوكت، وعماد فريد، وإلسيفرنيني، وعبدالكريم عمر وسمير شمص. وقال عنه صباح: «كان عملا فريدا لن يتكرر». وفي حديثه عن الراحلة وردة الجزائرية قال: «يكفينا فخرا أن وردة الجزائرية وردة واحدة لم ولن تتكرر، كانت رائعة وطيبة جدا. رحمك الله يا وردة الوردات».

نذكر أن المسلسل يحكي قصة عمار، وهو مطرب ذو صوت جميل، عشقته هزار، ابنة المعتصم والي قرطبة، وتمتاز أيضا بجمال صوتها.

أمين خياط

يحار الموسيقار السوري السيد أمين خياط: ما الذي سيذكره عن صديقه صباح فخري المطرب والصوت العظيم؟ يقول: يخطر في بالي أن أحكي لكم قصة خطرت في بالي، وهي: كيف تعرفت على صباح فخري؟ في عام 1964 في التلفزيون العربي السوري، حيث كانت بداية فرقة الفجر الموسيقية، وكنت أعمل برفقة السيدين جميل ولاية وإبراهيم جودت، وكنا نعد لبرنامج عن الموسيقى العربية، كل حلقة من هذا البرنامج مدتها ستون دقيقة، نغمة من نغمات الموسيقى العربية، وكانت تبدأ كما تبدأ الليالي القديمة في الموسيقى؛ تبدأ بالسماعي، ثم الموشحات والدور والقصيدة، ثم التقاسيم، ثم القدود الحلبية، في كل سهرة، وأقمنا أربعة وستين سهرة تلفزيونية، ووافقت الإدارة في التلفزيون العربي السوري على البرنامج ورصدت ميزانية خاصة له، وعند التنفيذ اكتشفت أنا الدمشقي أنه لا يوجد مطربون في دمشق إلا نجيب السراج فقط، لكنه يغني لونه الخاص الذي لا علاقة له بالقدود والموشحات، ورفيق شكري يغني أيضاً لونه الخاص، وكروان تغني الموشحات، وفتى دمشق، لكنهما لا يستطيعان أن يتحملا وحدهما البرنامج مدة ساعة كاملة، واحترنا بعد ذلك، ومن المفروض أن يتم التسجيل بعد أن تمت الموافقة عليه مع فرقتي، وقال لي جميل، وقتها: سنحل المشكلة، حيث سنتحدث مع أحدهم ليؤمّن لنا ضيفا للبرنامج من حلب، كصباح فخري ومها الجابري ومحمد خيري وسمير حلمي والصابوني، والكثير الكثير من مطربي حلب، فتمت دعوتهم إلى دمشق، وبدأ تسجيل البرنامج، ومن هنا انطلق صباح فخري، وبدأت الناس تتعرف على هذا الفنان الموهوب منذ 1964، وكان له ولزملائه الفضل الكبير في تعريف الناس على التراث السوري العظيم، من قصائد وموشحات وأدوار وقدود، ومن هنا بدأت صداقتي مع صباح فخري، وبعدها تعايشنا وأصبح يعمل الفنان صباح على أغانيه، حيث بقي يعمل مع فرقتي مدة تجاوزت السنوات العشر، واتجهت بعد ذلك لأعمل في طريق آخر، ويبقى صباح فخري رفيق الدرب.

وأتذكر أنه عندما أنجز الفنان صباح فخري مسلسل الوادي الكبير قمت أنا وزملائي الملحنين بتلحين ما يقارب الثلاثين أغنية، ومع الأسف لم يقم فخري بنشر تلك الأغاني، واكتفى بإذاعتها في البرنامج فقط، وكان من المفروض أن يتم غناء تلك الأغاني لاحقا وتصبح مثلها مثل أي فلكلور غناه الفنان صباح، وبمثل هذا الصوت العظيم نجحت تلك الأغاني، ووقتها كان صديقي الملحن العظيم بليغ حمدي قد لحن لوردة مجموعة من الأغاني في برنامج الوادي الكبير، إلا أن طبيعة الأغاني فيه كانت خاصة بالموشحات وما يشابهها، وفي تلك الفترة كتبت الصحف العربية عموما، واللبنانية خصوصا، أن الملحنين السوريين فازوا على بليغ حمدي بتلحين الموشح والدور والقصيدة، مع كل احترامي للفنان الكبير بليغ وتقديري له، لكن هذا ما كتبته الصحف وقتها، والفضل يعود في نجاح تلك الأغاني للصوت الرائع صباح فخري، الذي استطاع أن يصل بألحاننا بشكل لائق جدا في مسلسل الوادي الكبير.

ويتابع خياط: أذكر عندما كان مديرا لمهرجان الأغنية السورية وغنى في حفلتها، وفي ذاك المهرجان لم يدعني لأكون عضوا في لجنة التحكيم، وأذكر وقتها أن أعضاء لجنة التحكيم المدعوين لم يحضر منهم سوى السيدة رتيبة الحفني من القاهرة، فاتصل بي صباح وطلب مني أن أقود سيارتي من دمشق متجهاً إلى حلب في التو واللحظة، لأنه ليس لديه لجنة تحكيم في المهرجان، وفعلا ركبت سيارتي ووصلت وحكّمت في اللجنة، وبعدها بدورتين كنت مديرا للمهرجان وكرمت فيه صباح فخري، وفي الوقت الذي كنت أسلمه شهادة التكريم على المسرح برفقة وزير الإعلام ومدير عام الإذاعة والتلفزيون طلب مني صباح أن أحصل على إذن؛ يريد أن يتحدث بكلمة مختصرة، وفي تلك الكلمة أعطاني حقي وأكرمني فيها، وهذا ما أحترمه بصباح. وقال وقتها: المهرجان في دورته العاشرة، لكن أفضل دوراته كانت بإدارة أمين الخياط.

«ع الروزانا»

غنى صباح فخري أغنية «ع الروزانا» التي تعتبر الأشهر في بلاد الشام. هذه الاغنية تناقلها الجمهور بإعجاب شديد من جيل إلى جيل، وكان الفنان صباح فخري من أوائل من غنوا هذه الأغنية، التي اختلفت حولها الروايات الكثيرة، وتدور رواياتها حول قصة سفينة تدعى «روزانا»، الرواية الأولى تقول إنها كانت سفينة عثمانية محملة عنباً وتفاحاً، وجيء بها إلى بيروت لتبيع كل إنتاجها، بدل إنتاج المزارعين اللبنانيين… وهو ما حصل، فكسد الإنتاج اللبناني، ليأتي تجار حلب ويتضامنوا مع اللبنانيين ويشتروا كل محصولهم، وينقذوهم من الفقر والعوز. أما الرواية الثانية فتقول إن السفينة التي تدعى «روزانا» هي سفينة إيطالية، وأرسلتها إيطاليا إلى لبنان وسورية وقت المجاعة الكبرى عام 1914، محملة بالقمح، لكن عندما وصلت تبين أنها محملة عنباً وتفاحاً، ما أصاب اللبنانيين والسوريين بالخيبة. ورغم ذلك قام أهالي حلب بتأمين القمح اللازم للبنانيين، لإنقاذهم من المجاعة.

أما الكاتب والمؤرخ العراقي سيار الجميل، فأطلق مفاجأة وهو ينسب الأغنية إلى مدينة الموصل في العراق، مؤكدا أنه اكتشفها في مخطوط ديوان الشاعر عبدالله راقم أفندي 1853 – 1891 م، وقد كتبها بنفسه في جلسة سمر، واتفق مع صديقه الموسيقار الضرير، الملا عثمان الموصلي، على تلحينها، وهي تحكي قصة عاشقين كانا يلتقيان خلسة وراء الروزانا، وأن العاشق رحل إلى حلب، بعد أن افتقد حبيبته إثر إغلاق أهلها للروزانا، التي يسميها الموصليون بـ «الغوزني».

ويوضح الجميل قائلاً: إن «الروزانا» هي فتحة تُبنى في البيوت القديمة بالموصل، ويسميها البغداديون «الرازونا»، وهي ليست كما أشاع السوريون واللبنانيون اسم سفينة إيطالية، وقد تحققت من ذلك في بحثي في تاريخ البحرية الايطالية.

واتهم الجميل، الإعلامي السوري سعدالله الآغا بأنه قد نسج هو الآخر قصة من خياله، لينفي لبنانية الأغنية.

قصيدة سمراء

كان صباح فخري جالسا مسترخيا على كرسيه يتأمل البحر في مدينة اللاذقية قبل إحدى حفلاته، وإذا بصديق له يقطع عليه تأمله ويحييه طالبا الجلوس، وكان الأستاذ فؤاد اليازجي أستاذ الأدب العربي في مدرسة الأرض المقدسة. وبدأ الاثنان يتحدثان عن الادب والشعر، وسأله اليازجي مستفسرا عن القصائد التي سيغنيها تلك الليلة، فذكر له صباح: «قل للمليحة في الخمار الأسود»، فقال اليازجي إنه شعر جميل، وسأله إن كان يرغب في الغناء لسمراء، فرد صباح بأن الجمال يحتار بين البيض والسمر، وإن ما يجذبه جمال الشعر والتعبير فقال اليازجي: إذاً اسمح لي أن أقرأ لك هذه القصيدة:

حتامَ أرجو والرجاء يخيب

يا شوق رفقاً فالفؤاد يذوب

عبثت به سكرى الدلال وأعرضت

فإذا الضلوع توهج ووجيب

وإذا به هيمان يضرمه الأسى

فيشب من جنبيّ منه لهيب

لولاك يا سمراء يا أشهى المنى

ما كان تهيامي القديم يؤوب

شيّعته أيام شيّعت الصبا

وارتحتُ لا أرقٌ ولا تعذيب

فبعثته جمرا يلذّع أضلعي

وتركتني أشقى به وألوب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى