انطلقت شهرة الفنان عبدالمنعم مدبولي، في زمن الراديو، وعرفه مستمعو الإذاعة المصرية منذ عام 1953 من خلال البرنامج الفكاهي «ساعة لقلبك»، وصار حالة فنية متفردة، وتاريخا طويلا من العطاء سواء في المسرح أو السينما أو الدراما التلفزيونية، وتنوَّع إبداعه بين التمثيل والتأليف والإخراج المسرحي، وعلى مدى نصف قرن تربع على عرش الكوميديا، حتى رحيله في التاسع من يوليو 2006 عن عمر تجاوز 85 عاماً.
ترك الفنان الراحل رصيداً كبيراً من الأعمال الفنية، وقدّم نحو 60 فيلماً و120 مسرحية و30 مسلسلاً درامياً، وشكَّل حضوره نقلة نوعية في الأداء الكوميدي والتراجيدي، وظل قادراً على إضحاك الجمهور، على الرغم من ظهور أجيال من الفنانين الشباب، بل إنه اكتشف موهبة الكثيرين منهم، ومنحهم أول فرصة على طريق الاحتراف، وبعضهم أدرك قمة النجومية، مثل عادل إمام وشويكار وسعيد صالح ومحمد صبحي ويونس شلبي وغيرهم.
امتلك مدبولي حضوراً طاغياً كممثل كوميدي وتراجيدي، ومثلما أضحك جمهوره على الشاشة وخشبة المسرح، استطاع أن يؤثر في وجدانهم بأدواره التراجيدية، وأحياناً كان يمزج بين قناعي الدراما في عمل واحد، من دون الانزلاق إلى التقمص الميلودرامي والمبالغة في الأداء، وإزاء هذا السهل الممتنع، أصبح أحد عظماء فن التمثيل في العالم العربي.
وسار مدبولي في طريق الفنانين الكبار، ولم يهتم بترتيب اسمه على «أفيشات» الأفلام والمسرحيات و«تترات» الأعمال الدرامية، بل شارك بأدوار قصيرة في بعض الأعمال، ومنها دوره في مسرحية «الزوج العاشر» (1964)، إخراج السيد بدير، وبطولة أبوبكر عزت وعقيلة راتب ونجوى فؤاد، وبمجرد ظهوره كان الجمهور يتفاعل معه، ويدوي الضحك والتصفيق في أرجاء قاعة المسرح.
وهذا المزيج بين الاحترافية والموهبة المتفردة، جعله يغامر بنجوميته كممثل كوميدي، ويقدِّم دوراً صادماً لجمهوره في فيلم «المرأة والساطور» (1996)، إخراج سعيد مرزوق وبطولة نبيلة عبيد وأبوبكر عزت، وللمرة الأولى يتقمص مدبولي دور الشرير، ولكن بأداء هادئ من دون مبالغة، ويعطي درساً في التقمص لتلك النوعية من الأدوار، يضعه في مصاف نجومها الكبار أمثال زكي رستم ومحمود المليجي وصلاح منصور وعادل أدهم وغيرهم.
وحاول البعض أن يربط بين مدبولي والفنان علي الكسار، لتقارب الشبه بينهما، ولكن أسلوبهما في الأداء كان مختلفاً ولا يعقد أية صلة بين فنانين من جيلين مختلفين، فالكسار ظل المنافس التقليدي للفنان نجيب الريحاني، سواء في المسرح أو سينما الثلاثينيات والأربعينيات، بينما مدبولي شق طريقه منفرداً ببصمته الخاصة، من دون أن تطاوله أصداء من هذين النجمين الكبيرين، وبظهوره مع الفنان فؤاد المهندس، كونا ثنائياً فنياً رائعاً، وأسهما بموهبتهما الكبيرة في إثراء الكوميديا منذ عقد الستينيات وحتى رحيلهما.
بابا عبده
تعددت أقنعة مدبولي خلال مشواره الفني، وكان بالنسبة إلى أجيال كثيرة الأب الحنون طيب القلب، وقد أطلقوا عليه «بابا عبده» بعد نجاحه الكبير في مسلسل «أبنائي الأعزاء شكراً» عام 1979، تأليف عصام الجمبلاطي وإخراج محمد فاضل، وشاركه البطولة مجموعة من النجوم الصاعدين آنذاك، هم يحيى الفخراني وصلاح السعدني وفاروق الفيشاوي وآثار الحكيم وفردوس عبدالحميد ومحمود الجندي، وكذلك الفنانون الكبار عبدالوارث عسر وحسن عابدين ورشوان توفيق وصبري عبدالعزيز، وفي هذا المسلسل لا ينسى أحد أغنيته الشهيرة «الشاطر عمرو» التي غناها مع الطفل وليد يحيى، باعتبارها واحدة من أبرز أغاني الصغار.
ودارت أحداث هذا المسلسل حول «بابا عبده»، الموظف الذي تجاوز الستين، ويتعرض لمواقف متباينة وردود فعل أبنائه الذين رباهم بجهده، وهم طبيب ومهندس وصحافي وابنة تكمل تعليمها، ليكتشف الأب حقائق مختلفة، ويجد أنه يحتاج للتعرف إليهم من جديد، ويكتشف الأبناء أنهم ابتعدوا عن أبيهم كثيراً وأنهم بحاجة إليه دائماً كما يحتاج هو إليهم.
وجسَّد مدبولي شخصية الأب بكل نوعياتها، فهو الأب والزوج المكافح الذي يعمل كثيراً حتى يعلّم ويزوج أبناءه في فيلم «الحفيد» (1974)، وشارك في بطولته كريمة مختار وميرفت أمين ونور الشريف ومحمود عبدالعزيز، وهذا الشريط السينمائي يمثل الجزء الثاني من فيلم «أم العروسة» (1963)، بطولة تحية كاريوكا وعماد حمدي وحسن يوسف وسميرة أحمد، والفيلمان من إخراج عاطف سالم عن قصة للأديب عبدالحميد جودة السحار.
وحقّق «الحفيد» نجاحاً مماثلاً لفيلم «أم العروسة»، واستطاع مدبولي أن يجسِّد شخصية الأب بأداء مختلف عن الفنان عماد حمدي، وأضفى على الشخصية طابعاً كوميدياً، ويعد من أهم أدواره على الشاشة، كممثل يجمع بين الكوميديا والتراجيديا، ويغيُّر المفهوم السائد عن تصنيف الفنان، وحصره في مجال درامي واحد، وعدم اكتشاف مواهبه في جانب آخر.
وفي هذا السياق، انضم مدبولي إلى ممثلين قلائل، تمردوا على حصارهم في نطاق الكوميديا أو التراجيديا، ومنهم الفنان الكوميدي نجيب الريحاني، ودوره «التراجيكوميدي» في فيلم «غزل البنات» (1949)، وأيضاً عميد المسرح العربي يوسف وهبي، بعد أن خلع قناع التراجيديا، وأثبت أنه فنان كوميدي من طراز نادر، حين أقنعه المخرج فطين عبدالوهاب، بالمشاركة في فيلم «إشاعة حب» (1961) مع عمر الشريف وسعاد حسني وهند رستم وعبدالمنعم إبراهيم ورجاء الجداوي.
الطفل اليتيم
تداخلت أقنعة الدراما في حكاية عبدالمنعم مدبولي، وبدأت بصرخته الأولى في يوم 28 ديسمبر 1921 في حي باب الشعرية بالقاهرة، ليولد أصغر إخوته يتيماً، فقد توفي والده وهو يبلغ من العمر 6 أشهر، وكانت والدته شابة ولديها ثلاثة أطفال، وأكبر أبنائها يبلغ من العمر ست سنوات، وكان «آخر العنقود» طفلاً ضعيفاً يعاني حساسية الصدر، ويمرض كثيراً، فحظي باهتمام كبير من والدته ورعاية خاصة، وكانت تحيطه بحنانها كثيراً.
وظلت أصداء الطفولة عالقة في ذاكرته، وترك فقدانه لوالده وهو رضيع، أثراً نفسياً طوال حياته، ولذلك كان أباً حنوناً لدرجة كبيرة، ويحتوي أولاده بشكل كبير ويتأثر كثيراً عندما يرى أي طفل يتيم يقابله ويحتضنه، وأحياناً يبكي، وزاد هذا الشعور بشكل كبير عندما كبر في السن.
كانت والدة مدبولي، أماً وأباً في الوقت نفسه، وحازمة في التعامل معه وأشقائه، وكرّست حياتها لتربيتهم بعد وفاة والدهم، وعلى الرغم من أنها كانت على قدر بسيط من التعليم، فإنها كانت مهتمة بتعليم أبنائها على مستوى عالٍ، وكانت حريصة على أن تحضر لأصغر أبنائها معلمين في البيت، وتسمِّع له الدروس رغم أنها لم تكن تفهم ما تقوم بتسميعه، ولكنها أرادت أن تطمئن على أنه يذاكر دروسه جيداً، وكانت تمسك له العصا أثناء التسميع، حتى يحرص على أن يذاكر جيداً.
وفي ذلك الوقت كان عبدالمنعم طفلاً خجولاً، يميل إلى الانطواء، حتى ظهرت اهتماماته الفنية في سن مبكرة، منذ أن كان طالباً في المرحلة الابتدائية، وفجأة تفجرت مواهبه، وتحوَّل إلى نجم بين أقرانه، وكانوا يستعينون به في مسرح المدرسة، ليؤلف ويخرج ويمثِّل، وأصبح المسؤول عن الفريق الفني بالمدرسة، ومرت فترة مراهقته هادئة جداً بعيدة عن أية مشكلات.
كما كان مدبولي يحب الرسم ويتابع المسارح المتجوِّلة، ويشاهد الأعمال التي تقدم عليها من دون مقابل، وهو ما نمّى موهبته في التمثيل، وكان يستمتع بهذه المسرحيات، وتعلّم منها الكثير، وبخلاف عبدالمنعم مدبولي، كانت تلك الفرق حافزاً لكثير من أبناء جيل الثلاثينات، لدخول عالم الفن، ومنهم فريد شوقي ومحمود المليجي وإسماعيل ياسين وغيرهم.
مدرس النحت
عندما بلغ عبدالمنعم مدبولي 17 عاماً، قادته قدماه إلى مسرح جورج أبيض، واجتاز الباب باحثاً عن أول فرصة للوقوف على خشبة المسرح، وحينها كانت لتلك الفرقة شهرة كبيرة، وتعرض المسرحيات التراجيدية، وتَحقّق حلمُ الفتى الصغير، وأسند إليه دور رجل مُسِن، وفي إحدى ليالي العرض، تعرَّض لموقف محرج، حين بلع جزءاً من شاربه، لكنه تدارك الأمر، ووضع منديلاً على فمه، حتى لا يلاحظ الجمهور أي شيء غريب، وأكمل أداء دوره، ووقتها تنبأ له جورج أبيض بأنه سيكون ممثلاً كبيراً.
وفي ذلك الوقت تخرج في كلية الفنون التطبيقية، وعمل بها مدرساً في قسم النحت حتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي في أوج شهرته ومجده، واكتشف آنذاك الكثير من الموهوبين في التمثيل من طلاب الكلية، ومنهم الفنان نبيل الهجرسي. والتحق مدبولى بالمعهد العالي لفن التمثيل العربي ليتخرج فيه عام 1949 بتقدير جيد، في ثاني دفعة تخرجت في المعهد، ومن بين زملائه عبدالمنعم إبراهيم وعدلي كاسب وأحمد الجزيري ومحمود عزمي وإبراهيم سكر ومحمد الطوخي، وأصبح هو وكل دفعته من ألمع نجوم الفن بعد ذلك.