الرئيس دونالد ترامب لن يكون آخر شعبوي فى الولايات المتحدة!
لم تظهر الشعبوية اليمينية في الولايات المتحدة بسبب الكاريزما الجنونية التي يتمتع بها ترامب، ولم تبدأ تزامناً مع افتتان وسائل الإعلام الإخبارية بتصريحاته المشينة أو مع التدخل الروسي أو ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، بل عادت الشعبوية اليمينية كقوة سياسية مؤثرة قبل عقدين على الأقل من سيطرة ترامب على الحزب الجمهوري.
بعد أربع سنوات مريعة ومربكة، يريد عدد كبير من الأميركيين أن يقنع نفسه بأن الولايات المتحدة أصبحت على مشارف بداية جديدة، ويبدو أن نائب الرئيس الأسبق جو بايدن نجح في التفوق على الرئيس دونالد ترامب بفارق صغير في الانتخابات الرئاسية المحتدمة التي شكّلت اختباراً حقيقياً لأدوات الديمقراطية الأميركية.
لكن يُفترض ألا يتفاءل أحد بدرجة فائقة حول المستقبل بعد هذا الموسم الانتخابي المثير للجدل، إذ تشتق النزعة الاستبدادية والشعبوية التي طبعت عهد ترامب الرئاسي من تصدعات عميقة في السياسة الأميركية والمجتمع الأميركي، ويجب أن يدرك الأميركيون هذه المشاكل ويعالجوها إذا أرادوا منع أي قوى مماثلة من حُكْم البلد مجدداً. لا تبدأ جذور ظاهرة “الترامبية” مع ترامب أو حتى السياسة الأميركية، ولن تنتهي برحيل الرئيس المنتهية ولايته، بل إنها على ارتباط وثيق بالتيارات الاقتصادية والسياسية التي تجتاح معظم مناطق العالم.
بيئة حاضنة للشعبوية
كانت الولايات المتحدة مُهيأة لتقبّل نوعٍ من الحركات الشعبوية بحلول عام 2016 ولا تزال كذلك حتى اليوم، وخلال العقود الأربعة الماضية، انتشرت مظاهر اللامساواة على نطاق واسع بين أصحاب التعليم العالي وبقية السكان وبين الرساميل والعمل، ونتيجةً لذلك، بقي متوسط الأجور جامداً طوال أربعين سنة تقريباً وتراجعت أرباح جماعات كثيرة، لا سيما الرجال من أصحاب التعليم المنخفض، بوتيرة سريعة. يكسب الرجال مبالغ أقل بكثير من نظرائهم خلال فترة السبعينيات مثلاً إذا كانوا لا يحملون شهادة جامعية، ولا يستطيع أي نقاش جدّي حول المشاكل السياسية التي اجتاحت الولايات المتحدة أن يتجاهل تلك النزعات الاقتصادية التي أثّرت على الطبقة الوسطى الأميركية وأدت إلى تأجيج مشاعر الغضب والإحباط في أوساط بعض الناخبين لدرجة أن تقرر هذه الفئة تأييد ترامب.
تبدو الأسباب الأصلية لهذه اللامساواة صعبة التحديد على نحو مفاجئ، فقد تزامن ظهور تقنيات التنقل الجديدة والمبنية على المهارات، مثل الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي، مع تراجع نمو الإنتاجية لفترة معينة، ولم يفسّر المحللون بطريقة مقنعة السبب الذي جعل أصحاب الرساميل، لا العمّال، يستفيدون من تلك التقنيات. من الواضح أن التجارة مع الصين هي جزء من العوامل المؤثرة التي يذكرها الكثيرون حين يتكلمون عن أسباب المشكلة، لكن لم تبلغ الواردات الصينية ذروتها إلا بعد بدء توسّع مظاهر اللامساواة وتراجع الصناعة الأميركية، كذلك، لا تسجّل الدول الأوروبية التي تتلقى تدفقات تجارية من الصين المستوى نفسه من اللامساواة بقدر الولايات المتحدة، ولا يمكن نَسْب تفكيك النقابات أو رفع الضوابط عنها في الولايات المتحدة إلى اختفاء الوظائف الصناعية والمكتبية مثلاً لأن هذه الخسائر شائعة أيضاً في جميع الاقتصادات المتقدمة.
في مطلق الأحوال، أصبحت اللامساواة الاقتصادية، بغض النظر عن أصلها، مصدراً للتقلبات الثقافية والسياسية في الولايات المتحدة. كل من عجز عن الاستفادة من النمو الاقتصادي خاب أمله في النظام السياسي، ففي المناطق التي أدت فيها الواردات الصينية والأتمتة إلى خسارة الوظائف الأميركية، أدار الناخبون ظهرهم للسياسيين المعتدلين وباتوا يميلون إلى التصويت للمرشحين الأكثر تطرفاً.
قد تبدأ أي سياسة مفيدة بمعالجة اللامساواة الاقتصادية: من خلال رفع الحد الأدنى للأجور الفدرالية وفرض نظام ضريبي مبني على إعادة التوزيع وتحسين الأمن الاجتماعي، يمكن تسهيل إنشاء مجتمع أكثر عدالة، لكن لن تكون هذه التدابير وحدها كافية. تحتاج الولايات المتحدة إلى خلق فرص عمل لائقة (ما يعني أن تكون مستقرة وبأجور مرتفعة) للعمال إذا كانوا لا يحملون شهادة جامعية، لكن لا يزال البلد بعيداً عن التوصل إلى إجماع حول كيفية تحقيق هذا الهدف.
بالإضافة إلى توسّع مشاعر الاستياء لأسباب اقتصادية، تلاشت الثقة بجميع أنواع النُخَب. يعبّر جزء كبير من الرأي العام الأميركي والسياسيين اليوم عن عدائية متزايدة تجاه صناعة السياسة المبنية على الخبرة، كذلك انهارت الثقة بالمؤسسات الأميركية، بما في ذلك السلك القضائي والكونغرس والاحتياطي الفدرالي ومختلف وكالات إنفاذ القانون، ولا يمكن لوم ترامب وحده أو أي انقسام حزبي مستجد على هذا التحول المناهض للتكنوقراط، بل إن الرفض شبه الكامل للوقائع العلمية وصناعة السياسة بطرقٍ موضوعية وكفؤة وسط شريحة واسعة من الناخبين والحزب الجمهوري يسبقان عهد ترامب، وتتكرر هذه المظاهر في بلدان أخرى مثل البرازيل والفلبين وتركيا.
من دون التعمق في فهم أصل تلك الشكوك كلها، يصعب أن يقنع صانعو السياسة الأميركية ملايين الناس بأن أفضل السياسات التي يصمّمها الخبراء ستُحسّن حياتهم وتكبح عقوداً من التراجع، ولا يمكن أن يتوقع صانعو السياسة نجاحهم في إخماد الاستياء الذي سهّل تنامي نفوذ ترامب.