القوات البحرية الأوروبية… أقوى نظام لردع الصين
إذا قررت أوروبا أن تُعمّق التزاماتها العسكرية مع منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، فسيتوسع دور اليابان، لأنها الدولة الآسيوية الوحيدة التي تملك ميناءً تستطيع حاملات الطائرات التوجه إليه لصيانتها عند الحاجة، ويُفترض أن تتوقع اليابان وصول السفن البريطانية والفرنسية والألمانية بانتظام، ومن الضروري أن تتمسك اليابان بدورها للحفاظ على هذا التعاون.
حين يستهزئ أي بلد بالقواعد الدولية علناً، تَرُدّ قوى العالم من خلال تصعيد الوضع وفق نمط محدد، فتدين في البداية تلك التحركات عبر مؤتمرات صحافية وبيانات متلاحقة، وإذا لم تُعطِ هذه الانتقادات النتيجة المرجوة، يمكن اللجوء إلى العقوبات الاقتصادية، وفي خطوة مختلفة، قد تفرض تلك الجهات ضغوطاً عسكرية عند الحاجة، بما في ذلك إرسال السفن الحربية.
للتعامل مع الصين، بدأت الدول الأوروبية الكبرى تطبّق الخيار الثالث، فقد أرسلت فرنسا مثلاً فرقاطة إلى المياه المجاورة لليابان في 19 فبراير لتنفيذ تدريب عسكري مشترك مع القوات اليابانية والأميركية.
تتزامن هذه التحركات مع توسّع الانتقادات في أوروبا ضد الصين بسبب انتهاكها لحقوق الإنسان في هونغ كونغ ومنطقة “شينجيانغ” الإيغورية وذاتية الحُكم، فضلاً عن خطواتها العدائية في بحر الصين الجنوبي.
وفق استطلاع أجراه مركز “بيو” البحثي ونشره في أكتوبر الماضي، تبيّن أن أكثر من 70% من المشاركين في بريطانيا وفرنسا وألمانيا يحملون رأياً سلبياً عن الصين، ويتّضح هذا الاستياء والقلق العام من الصين في ثلاث دول أوروبية بارزة اليوم ويظهر على شكل “دبلوماسية مدافع الأسطول”.
تحول مثير للاهتمام
يعكس هذا التطور تحولاً مثيراً للاهتمام في أوروبا، حيث كانت معظم الجهود الجيوسياسية تُركّز على روسيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
كان التحرك الفرنسي بارزاً على نحو خاص لأن فرنسا تهتم بكاليدونيا الجديدة وأقاليم أخرى في جنوب المحيط الهادئ، كذلك، تنشر فرنسا آلاف الجنود والسفن والطائرات في تلك المنطقة، بالإضافة إلى إرسال الفرقاطة، كشفت فرنسا في 8 فبراير الماضي أنها أرسلت أيضاً غواصة هجومية عاملة بالطاقة النووية إلى بحر الصين الجنوبي، وتعليقاً على الموضوع، يقول مسؤول أمني آسيوي: “من غير المألوف أن تكشف أي جهة عن التحركات السرية للغواصات النووية”.
تقضي أبرز مهمة هجومية للغواصات برصد غواصات الأعداء وإغراقها، لكن من خلال إرسال غواصة مماثلة إلى بحر الصين الجنوبي، تريد فرنسا على ما يبدو أن توجّه تحذيراً واضحاً إلى الصين بعدما اشتبه بعض المحللين بأنها أرسلت غواصات مزوّدة بصواريخ نووية إلى هناك.
من المتوقع أن ترسل فرنسا أيضاً سفينة برمائية بحلول هذا الصيف وتُنظّم أول تدريب عسكري مع اليابان والولايات المتحدة بهدف الدفاع عن جزر بعيدة للمرة الأولى على الإطلاق.
توسّع القلق من الصين
في غضون ذلك، تُخطط بريطانيا لإرسال حاملة الطائرات المتطورة “إتش إم إس كوين إليزابيث” إلى منطقة المحيطَين الهندي والهادئ في نهاية هذه السنة، ومن المتوقع أن تبقى تلك السفينة في المنطقة لأشهر عدة، لكن تقضي خطة مستقبلية أخرى بإرسال حاملة طائرات بريطانية إلى منطقة المحيطَين الهندي والهادئ لإبقائها هناك على مر السنة.
قد لا تكون ألمانيا قوة بحرية بارزة بقدر فرنسا أو بريطانيا، لكن من المتوقع أن ترسل بدورها فرقاطة إلى منطقة المحيطَين الهندي والهادئ هذه السنة.
وفق مصدر دبلوماسي أوروبي، تعكس هذه التحركات كلها توسّع القلق من الصين في العواصم الأوروبية. تدهورت نظرة الأوروبيين القاتمة أصلاً إلى بكين بعد حملة الصين القمعية في هونغ كونغ و”شينجيانغ” وتفشي فيروس كورونا.
كذلك، يُعتبر الحشد العسكري الصيني مصدر تهديد على المصالح الاقتصادية الأوروبية، ويشكّل بحر الصين الجنوبي خطاً أساسياً للشحن، ويمرّ فيه نحو 10% من العمليات التجارية الخاصة ببريطانيا وفرنسا وألمانيا.
يملك الجيش الصيني نحو 350 سفينة، أي أكثر من عدد السفن الأميركية، ونتيجةً لذلك، لن يختلّ التوازن العسكري الذي يصبّ راهناً في مصلحة الصين بعد إرسال عدد صغير من السفن الأوروبية إلى المنطقة، ومع ذلك، يظن مسؤولون أمنيون في آسيا وأوروبا أن تحركات بريطانيا وفرنسا وألمانيا قد تسهم في التصدي للجيش الصيني بطريقتَين على الأقل.
أولاً، إذا أثبت الأوروبيون قدرتهم واستعدادهم لاستعمال قوتهم البحرية في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، فستضطر الصين لتغيير العمليات التي تخطط لها في تايوان وبحر الصين الجنوبي، إذ يجب أن يتوقع الجيش الصيني حينها أن تقدم بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وحتى اليابان وأستراليا، شكلاً من الدعم للقوات الأميركية في حال اندلاع أي صراع. هذا الوضع يُصعّب على الصين قرار التحرك العسكري.
تعاون بحري جديد
حتى لو لم تنضم بريطانيا وفرنسا وألمانيا إلى المعركة مباشرةً، يظن نيكولاس ريغود، الذي شارك في وضع استراتيجية المحيطَين الهندي والهادئ في وزارة الدفاع الفرنسية حتى عام 2019، أن هذه الدول تستطيع أن تدعم القوات الأميركية بطريقة غير مباشرة.
يضيف ريغود الذي أصبح اليوم باحثاً مرموقاً ومديراً لقسم التنمية الدولية في “معهد الأبحاث الاستراتيجية” في وزارة القوات المسلحة: “إذا أطلقت الصين أي تحرك عسكري يؤثر على الولايات المتحدة في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، كأن تتحرك مثلاً في مضيق تايوان، من المستبعد أن تراقب أوروبا ما يحصل من دون تحريك أي ساكن. على المستوى السياسي، سيضطر الأوروبيون للانحياز إلى طرف محدد حفاظاً على العلاقات العابرة للأطلسي، وسيوافقون بذلك على دفع ثمن معيّن لأن الصين ستردّ على ما يحصل عبر استعمال التجارة والتمويل والفضاء السيبراني كسلاح بحد ذاته.
على الصعيد العسكري، قد تملأ فرنسا وبريطانيا وألمانيا الفجوة التي خلّفتها القوات البحرية الأميركية في المحيط الأطلسي أو البحر الأبيض المتوسط أو منطقة الخليج، إذ تتعدد الخيارات الأخرى التي تستطيع أوروبا اللجوء إليها لدعم العمليات العسكرية الأميركية، منها توفير المعلومات الاستخبارية ومساعدة المدنيين على إجلاء المناطق.
ثانياً، إذا تابعت بريطانيا وفرنسا إرسال السفن إلى منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، فقد ينشأ إطار جديد للتعاون البحري في المنطقة بقيادة الولايات المتحدة، إذ تستطيع بريطانيا وفرنسا أن تكثّفا تعاونهما مع الولايات المتحدة واليابان وأستراليا ودول أخرى عبر تنظيم تدريبات بحرية مشتركة في المنطقة.
تُعتبر حاملة الطائرات “إتش إم إس كوين إليزابيث” مثالاً واضحاً على العمليات الهجينة التي تقوم بها الجيوش البريطانية والأميركية. هي تحمل طائرات مشاة البحرية الأميركية، بالإضافة إلى طائرات بريطانية، وتنضم المدمرات الأميركية أيضاً إلى السفن البريطانية لمرافقة حاملة الطائرات.
قد تردّ الصين بقوة على إرسال السفن الحربية البريطانية والفرنسية والألمانية إلى المنطقة، فتنشأ اضطرابات جديدة، لكن يبدو أن إيجابيات هذا التحرك (لا سيما ردع المغامرات الصينية في مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي) تتفوق على سلبياته.
لكن لا تشكّل الدول الأوروبية جبهة موحدة ضد الصين، فضّلت المجر وبولندا الابتعاد عن فرنسا وألمانيا، وتوصّل الاتحاد الأوروبي إلى اتفاق واسع حول ميثاق استثماري مع بكين في أواخر السنة الماضية ولا ينوي التخلي عن أعماله في الصين.
لكن على المدى الطويل، من المتوقع أن تتخذ أوروبا موقفاً أكثر صرامة من الصين، فوفق تقرير صادر عن حلف الناتو في 1 ديسمبر، تُعتبر الصين مصدر تهديد إلى جانب روسيا.
إذا قررت أوروبا أن تُعمّق التزاماتها العسكرية مع منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، فسيتوسع دور اليابان أيضاً، فهي الدولة الآسيوية الوحيدة التي تملك ميناءً تستطيع حاملات الطائرات التوجه إليه لصيانتها عند الحاجة، ويُفترض أن تتوقع اليابان وصول السفن البريطانية والفرنسية والألمانية بانتظام، ومن الضروري أن تتمسك اليابان بدورها للحفاظ على هذا التعاون من خلال زيادة جاهزية موانئها والتخطيط لتدريبات مشتركة.