كانت الأشهر القليلة الماضية أشهر نعيم على صناعة النفط العالمية، حيث حصلت السلعة الأساسية الأكثر أهمية على دوافع عديدة لمواصلة صعودها، منها تمسك «أوپيك» وحلفائها بسياسة إنتاج صارمة والخفض الطوعي الكبير لإمدادات السعودية إلى جانب آفاق النمو المتحسنة.
وارتفع سعر الخام القياسي «برنت» في مارس فوق 70 دولارا، مسجلا أفضل مستوياته منذ ما قبل الوباء الذي دفع أسعار النفط قبل عام إلى الحضيض، عندما انخفضت دون الصفر إلى النطاق السالب.
هذه الصحوة السريعة والكبيرة، منذ بداية العام الحالي ارتفعت الأسعار من 51 دولارا تقريبا في أوائل يناير، أضافت إلى المليارديرات الذين يستمدون ثرواتهم من أعمال النفط، ما قدره 51 مليار دولار خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام.
على أي حال، هدأت حركة الأسعار نسبيا في الأيام القليلة الماضية، وتراجع «برنت» ليحوم حول نطاق 65 دولارا للبرميل، وجاء التراجع الأخير بعد قرار تحالف «أوپيك+» بزيادة الإنتاج بواقع 350 ألف برميل لكل من شهري مايو ويونيو وبمقدار 450 ألف برميل في يوليو.
لكنه أيضا كان مدفوعا بالمخاوف حول ارتفاع إصابات الوباء حول العالم، واتجاه بعض الحكومات لفرض قيود جديدة، ما قد يؤثر على الطلب، لكن هذا يعني أن انفراجة ممكنة على المدى القصير بعد تجاوز الموجة، والأهم أن النفط لم ينخفض كثيرا ولا يزال قرب واحدة من أفضل قممه على مدار العام ونصف العام الماضي تقريبا.
رحلة طويلة من الارتفاع
رغم الضغوط الأخيرة، يبدو أن اتجاه أسعار النفط سيكون صعوديا على نطاق واسع، حيث تشير معظم شركات النفط الكبرى إلى تراجع الإنفاق الرأسمالي، فيما يتوقع مصرف «جولدمان ساكس» انتعاشا كبيرا في الطلب، ما يستدعي ضخ مليوني برميل إضافية من «أوپيك+» وحدها هذا الصيف.
وفي الهند (وهي أحد أكبر مستهلكي النفط في العالم) تراجع طلب مصافي التكرير بسبب الأسعار المرتفعة، وهو اتجاه يعتقد محللو «ستاندرد آند بورز جلوبال بلاتس» أنه سيمتد مع موجة تفشي الفيروس الجديدة، خاصة أنها تتزامن مع عمليات الصيانة في أبريل.
مع ذلك، تتوقع «بلاتس أناليتيكس» أن يظل الطلب على النفط في الهند في عام 2021 أقل قليلا من مستوى عام 2019، بسبب هذا الضعف في النصف الأول، لكنه سيسجل نموا قدره 440 ألف برميل يوميا على مدار العام بأكمله، بعد انكماش قدره 470 ألف برميل يوميا عام 2020.
وعلى المدى الطويل، فإن «أوپيك» لديها مصلحة خاصة في الاستمرار في تقييد الإنتاج للحفاظ على مستويات الأسعار، في حين يهدف إطار العمل الكامل لاتفاقية باريس للمناخ إلى أهمية زيادة تكلفة إنتاج النفط، وعلى أي حال سيمرر ذلك إلى المستهلكين في شكل أسعار أعلى في النهاية.
الطلب على النفط لايزال متوقعا أن يرتفع لسنوات عديدة رغم ازدهار مصادر الطاقة المتجددة، وتتنبأ دراسة حديثة أجرتها «بلومبيرغ إن إي إف» للأبحاث، بأن الأجندة الخضراء ستدفع النفط إلى الانحدار الهيكلي فقط اعتبارا من عام 2035.
ومن المسلم به أن ضرائب الكربون قد تخفف الطلب من خلال معاقبة الشركات بشكل متزايد على استخدام الوقود الأحفوري، لكنها ستعتمد على كيفية تطور هذه القواعد، ومثلا، فإن مخطط الاتحاد الأوروبي لتلك الضريبة، هو الأكثر تقدما لكنه يتضمن الكثير من الاستثناءات التي تخفف حاليا المتطلبات في العديد من القطاعات.
الأثر الاقتصادي
ترتبط أسعار النفط ارتباطا وثيقا بالتضخم نظرا لانتقالها عبر الأسواق، فعلى سبيل المثال، تشكل تكلفة لا مفر منها للشركات التي تدير المركبات، والتي تمرر الزيادة بعد ذلك إلى المستهلكين عن طريق زيادة أسعار سلعهم وخدماتهم.
وفي الولايات المتحدة، هناك بالفعل مخاوف كبيرة بشأن التأثير التضخمي لحزمة التحفيز البالغة 1.9 تريليون دولار، لاسيما عندما أشار الاحتياطي الفيدرالي إلى أنه سيتحمل تضخما أكثر من السابق، ولذلك فإن ارتفاع أسعار النفط يغذي هذه المخاوف.
وارتفعت أسعار البنزين في الولايات المتحدة إلى 2.85 دولار للغالون، منذ وصلت أدنى مستوى لها على مدار عدة سنوات عند 1.77 دولار في أواخر أبريل 2020. زادت أسعار البنزين في أميركا طيلة 17 أسبوعا متتاليا، وهي أطول سلسلة منذ عام 1994، ويرجع ذلك أساسا إلى ارتفاع أسعار النفط الخام، حسب موقع «أرقام».
وترتفع أسعار الفائدة طويلة الأجل مع مخاوف التضخم، وقد ارتفعت بشكل حاد في الآونة الأخيرة، وإذا استمر هذا الاتجاه، فقد يحد مما يمكن للحكومة الأميركية أن تقترضه للإنفاق على البنية التحتية، وفي الوقت نفسه فإن التضخم من شأنه أن يجعل البنية التحتية أكثر تكلفة.
في المملكة المتحدة، ظل التضخم منخفضا مع انخفاض أسعار النفط، حيث تسبب الوباء في خفض الطلب على نفط البلاد بشكل كبير وتأثر نشاط الحفر سلبا، لذا من المفترض أن تساعد الأسعار المرتفعة في عكس ذلك، اعتمادا على الطلب من الخارج.
وفي البلدان النامية التي تعتمد على تصدير النفط، سيكون هناك ترحيب بارتفاع الأسعار بعد تضرر الميزانيات الحكومية من انخفاض الطلب خلال الوباء، لكن ستخسر دول نامية أخرى مع ارتفاع الأسعار خاصة الدول المستوردة للنفط، والتي اضطر بعضها إلى رفع الفائدة لكبح التضخم جزئيا.
تحول الطاقة
من المفترض أن يسرع النفط الأكثر تكلفة من الوصول إلى نقطة التحول، حيث تصبح مصادر الطاقة المتجددة أرخص وسيلة لتوليد الكهرباء ونقل الطاقة، وعلى جانب آخر ساعدت التكلفة المنخفضة للطاقة المتجددة مقارنة بالوقود الأحفوري بالفعل في جعل هذه المصادر أكثر جاذبية.
لكن من المفارقات أن الأسعار المرتفعة توفر أيضا حوافز لشركات النفط لإنفاق المزيد على التنقيب والإنتاج، وهي خطوة تعرقل هدف تحقيق «انبعاثات صافية صفرية». وفي البلدان النامية التي تعتمد بشكل كبير على صادرات النفط، تعني الأسعار المرتفعة المزيد من الأموال للإنفاق على المجتمع، مما يعزز شعبية الحكومات.
لذلك، قد يمنح ارتفاع الأسعار، الأولوية لاستكشاف وإنتاج النفط بشكل أكبر، ربما على حساب تطوير مصادر الطاقة المتجددة وتلبية أهداف الكربون المحددة على المستوى الوطني، لذا فإن أسعار النفط المرتفعة تهدد التحول بالفعل خاصة في البلدان النامية، وهذا يعني أنها ستلعب دورا رئيسيا في وتيرة ونطاق تحول الطاقة.
مع ذلك، لايزال فريق من كبار التنفيذيين في صناعة الطاقة، يؤمن بأن ارتفاع أسعار النفط لن يؤثر على تعهدات الشركات الكبرى بالتحول إلى طاقة أنظف وتحقيق هدف «صفر انبعاثات» بحلول عام 2050، لأن هذا الارتفاع ببساطة يمنحها موارد مالية أكبر للإنفاق على خطط وتقنيات التحول.
واستشهد هؤلاء باستثمارات شركة «شل» في تقنيات نظيفة عدة على رأسها تخزين الطاقة، وطاقة الرياح والشمس والهيدروجين، والذي يعد أحد أكبر مشاريع المستقبل أيضا لدى السعودية، وهي أكبر مصدر للنفط في العالم.