لقاء تاريخي بين البابا والسيستاني: نبذ الحرب وصنع السلام
قبل اجتماعه مع وفود حكومية وعشائرية وشعبية من معظم الطوائف الدينية في مهد أبي الديانات السماوية سيدنا إبراهيم عليه السلام، عقد بابا الفاتيكان في مدينة النجف، لقاء اكتسى طابعاً رمزياً كبيراً مع المرجع الديني الأعلى في العراق، في خطوة تتماهى مع هدفه في تعميق الحوار الأخوي مع شخصيات دينية مهمة.
في اليوم الثاني من زيارته التاريخية عقد البابا فرانسيس، أمس، لقاء تاريخياً مع المرجع الديني الأعلى للشيعة في العراق السيد علي السيستاني، في لفتة قوية تدعو للتعايش السلمي في أرض عصفت بها الطائفية والعنف.
وعُقد الاجتماع الذي استمر نحو 45 دقيقة في منزل السيستاني المتواضع، الذي يستأجره منذ عقود، ويقع في حارة ضيقة بمدينة النجف المقدسة قرب مرقد الإمام علي ذي القبة الذهبية.
وكشف مسؤول في الفاتيكان عن صورة يظهر فيها السيستاني «90 عاماً» من أهم الشخصيات في المذهب الشيعي، بثيابه السوداء وعمامته التقليدية جالسا أمام فرانسيس بردائه الأبيض.
ووفق بيان من مكتب السيستاني عقب الاجتماع، فقد «دار الحديث خلال اللقاء حول التحديات الكبيرة التي تواجهها الإنسانية في هذا العصر ودور الايمان بالله تعالى وبرسالاته والالتزام بالقيم الأخلاقية السامية في التغلب عليها».
وأشار البيان إلى أن السيستاني «تحدث عما يعانيه الكثيرون في مختلف البلدان من الظلم والقهر والفقر والاضطهاد الديني والفكري وكبت الحريات الأساسية وغياب العدالة الاجتماعية، وخصوصاً ما يعاني منه العديد من شعوب منطقتنا من حروب وأعمال عنف وحصار اقتصادي وعمليات تهجير وغيرها، ولاسيما الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة».
وأشار المرجع العراقي إلى «الدور الذي ينبغي أن تقوم به الزعامات الدينية والروحية الكبيرة في الحد من هذه المآسي، وما هو المؤمل منها من حثّ الأطراف المعنيّة، ولاسيما في القوى العظمى، على تغليب جانب العقل والحكمة ونبذ لغة الحرب، وعدم التوسع في رعاية مصالحهم الذاتية على حساب حقوق الشعوب في العيش بحرية وكرامة».
وأكّد السيستاني، الذي لا يظهر إجمالاً أمام الإعلام ويتلو أعوانه خطبه في الجمع، «اهتمامه بأن يعيش المواطنون المسيحيون كسائر العراقيين في أمن وسلام وبكامل حقوقهم الدستورية»، مشيراً إلى «جانب من الدور الذي قامت به المرجعية الدينية في حمايتهم وسائر الذين نالهم الظلم والأذى في حوادث السنين الماضية، ولاسيما في المدة التي استولى فيها الإرهابيون على مساحات شاسعة في عدة محافظات عراقية، ومارسوا فيها أعمالاً إجرامية يندى لها الجبين».
وتمنى السيستاني «للحبر الأعظم وأتباع الكنيسة الكاثوليكية ولعامة البشرية الخير والسعادة»، وشكره على «تجشمه عناء السفر إلى النجف الأشرف للقيام بهذه الزيارة»، ونشر الموقع الرسمي لأخبار الفاتيكان صورة تجمع الرجلين.
البابا
من ناحيته، قال الفاتيكان، في بيان، إن «البابا أكد أهمية التعاون والصداقة بين الطوائف الدينية حتى يمكننا المساهمة من أجل صالح العراق والمنطقة عن طريق تشجيع الاحترام المتبادل والحوار»، موضحاً أن «اللقاء كان فرصة للبابا لتقديم الشكر إلى آية الله العظمى السيستاني، لأنه رفع صوته مع الطائفة الشيعية في مواجهة العنف والصعوبات الكبيرة في السنوات الأخيرة، دفاعا عن الأضعف والأكثر اضطهاداً».
وحسب البيان، «كرر البابا صلاته إلى الله أثناء وداعه لآية الله العظمى، من أجل مستقبل يسوده السلام والأخوة لأرض العراق الحبيبة والشرق الأوسط والعالم أجمع».
وعلّق شيعة العراق أهمية كبرى على هذا اللقاء بين المرجعية الشيعية النافذة وبين رأس الكنيسة الكاثوليكية. ورفعت في بعض شوارع النجف لوحات عليها صور البابا والسيستاني مع عبارة بالإنكليزية «اللقاء التاريخي».
ويقول رجل الدين الشيعي محمد علي بحر العلوم، إن «زيارة البابا إلى النجف تشكّل مصدر اعتزاز»، مضيفاً: «نثمن هذه الزيارة التي ستعطي بلا شك بعداً آخر للنجف الأشرف».
أبو الديانات
وبعد النجف، حطّ البابا فرانسيس في أور، الموقع الرمزي من الناحية الروحية، الذي يعتقد أنه مكان مولد النبي إبراهيم، أب الديانات السماوية، حيث كان في استقباله وفد حكومي رسمي وشيوخ عشائر وشخصيات دينية رفيعة حيث جرى تدشين منصة احتفالية أعدت لهذه المراسم.
والتف العراقيون بكل أطيافهم حول البابا في بيت إبراهيم، وإلى جانب المسلمين الشيعة والسنة شارك في القداس الباباوي قرب زقورة السومريين الأرمن الأرثوذوكس القادمون من البصرة والصابئة والبهائيون والأيزيديون والأكراد بكل تنويعاتهم المذهبية.
وأقيمت تراتيل وقراءة نصوص في فعالية لقاء الأديان من الكتاب المقدس وآيات من القرآن الكريم وأداء صلاة موحدة مشتركة هي الأولى من نوعها على أرض مدينة أور التاريخية تخللها عرض شهادات رواها عدد من العراقيين من مختلف الأديان عبرت عن عمق التلاحم والتعايش الإنساني والأخوي بين الأديان السماوية ومعاناة العراقيين من جراء العنف والإرهاب وأهمية زيارة الحبر الأعظم بمشاركة نحو 100 شخصية.
وقال البابا، في خطابه الذي سبق صلاةً مع ممثلين عن الشيعة والسنة والأيزيديين والصابئة والكاكائيين والزرداشتيين: «لا يصدر العداء والتطرف والعنف من نفس متدينة: بل هذه كلها خيانة للدين».
وأضاف: «نحن المؤمنين، لا يمكن أن نصمت عندما يسيء الإرهاب للدين. بل واجب علينا إزالة سوء الفهم»، وذلك بعد نحو أربع سنوات من دحر تنظيم «داعش» الذي سيطر بين 2014 و2017 على أجزاء واسعة من العراق وزرع الرعب والدمار.
وتابع: «السلام ليس فيه غالبون ومغلوبون، بل إخوة وأخوات، يسيرون من الصراع إلى الوحدة»، مضيفاً «لنصلّ ولنطلب هذا السلام لكلّ الشرق الأوسط، وأفكّر بشكل خاص في سورية المجاورة المعذّبة». كما دعا إلى «احترام حرية الضمير والحرية الدينية والاعتراف بها في كل مكان»، مضيفاً «إنها حقوق أساسية، لأنها تجعل الإنسان حراً للتأمل في السماء التي خلق لها»، في نداء مماثل للذي أطلقه خلال زيارته إلى المغرب قبل نحو عامين.
ومنذ وصوله الجمعة إلى بغداد، تطرق البابا إلى كل المواضيع الحساسة والقضايا التي يعاني منها العراق وليس المسيحيين فقط. وقال خلال لقائه الرئيس برهم صالح «لتصمت الأسلحة! ولنضع حداً لانتشارها هنا وفي كل مكان!».
وفي إشارة إلى المسيحيين الذين يشكلون واحداً في المئة من السكان، شدّد البابا الجمعة على ضرورة «ضمان مشاركة جميع الفئات السياسية والاجتماعية والدينية، وأن نؤمن الحقوق الأساسية لجميع المواطنين»، قائلاً «يجب ألا يعتبر أحد مواطنا من الدرجة الثانية».
وسمى الأيزيديين «الضَّحايا الأبرياء للهجمية المتهورة وعديمة الإنسانية، فقد تعرضوا للاضطهاد والقتل بسبب انتمائهم الديني وتعرضت هويتهم وبقاؤهم نفسه للخطر».
وكان البابا ذكر الجمعة في كلمة أمام المسؤولين في بغداد أيضاً سورية حيث تحوّلت انتفاضة شعبية إلى حرب لا تزال مستمرةً منذ 10 سنوات، راح ضحيتها أكثر من 387 ألف شخص.
وزار البابا أمس الأول، كاتدرائية «سيدة النجاة» في حي الكرادة بوسط بغداد.
واستقبلت مجموعات من المسيحيين بالزغاريد والأغاني البابا فرانسيس عند بوابة كاتدرائية «سيدة النجاة» معبرين عن اعتزازهم بقدوم البابا لزيارة العراق.
ومن أور، عاد البابا إلى بغداد، إذ احتفل عصراً بقداس في كاتدرائية مار يوسف للكلدان في حي الكرادة، إذ وضعت سواتر من أسمنت ونشرت قوات خاصة لحماية المكان. وتجري زيارة البابا وسط إجراءات أمنية مشددة.