اختلف المترجمون العرب، ولم يكونوا وحيدين في هذا الاختلاف، في فهم عنوان الكتاب الصيني الشهير باسم «داو دي تشنغ»، كما اختلفوا حتى في ترجمة النص ذاته، فظهرت له نسخ تبلغ من التنوع إلى أن قارئها يظن أن أصلها ليس واحداً. فيما يتعلق بالعنوان، وهو ما يهمنا هنا، لم يُقدِم على ترجمته إلى اللغة العربية سوى د. عبدالغفار مكاوي (1930- 2012) بعبارة «طريق الحق والفضيلة»، بينما اكتفى المترجمون الآخرون بعنوان كتاب «التاو» أو «الطاو»، وأضاف بعضهم عبارات من عنده غير موجودة في الأصل، مثلما فعل د. مسلم سقا أميني بإضافة عبارة «كتاب الصين المقدس»، وكذلك فراس السواح الذي أضاف عبارة «إنجيل الحكمة التاوية في الصين».
يبدو أن كتاب “داو دي تشنغ”، الذي ترجمه حديثاً محمد الأسعد، والمنسوب إلى الحكيم الصيني “لاو تسو” الذي يُعتقد أنه عاش في القرن السادس ق. م. وينظر إليه على أنه كتاب فلسفي نشأ بتأثيره في الصين المذهب المعروف باسم “الطاوية”، وأثر تأثيراً كبيراً على حياة الصينيين وعلى فكرهم وفنونهم، وخاصة فن التصوير؛ يبدو أنه عنوانٌ مراوغ كما هي مراوغة الكتابة التصويرية، سواء كانت صينية أو غير صينية.
فالصورة حمّالة أوجه، ويظل التقريب في مقاربة المعنى أكثر أماناً، ومع هذا سيكون من الأفضل بالطبع العثور على دليل داخلي في ما ينطوي عليه الكتاب، يعزّز إلى حد ما ما يمكن أن نستدل عليه من قراءة كلمة عمادها صورة أو تركيب من عدة صور، وليس حروفاً أبجدية.
الكتابة التصويرية
على هذا الأساس، وحين نطل على الكتابة التصويرية الصينية، مستعينين بشروحات أحد أشهر مترجمي هذا الكتاب إلى الإنكليزية، نجد ما يمنح نص الكتاب بعداً أقرب إلى أن يكون بعداً فلسفياً. صاحب هذه الترجمة، المزودة بشروح إضافية تجاور قصائد الكتاب الأصلية، هو الأميركي رولاند برنارد بلاكني الذي وضع عبارة “طريق الحياة” عنواناً له.
أول ما يلفت النظر هنا هو أن كلمة “داو” تتشكل من رمزين تصويريين؛ الأول يمثل رأس إنسان دلالة على المعرفة، والثاني يمثل قدماً دلالة على السير. ولهذا الشكل التصويري عدد من المعاني؛ فهو طريق، وهو مسار، وهو الطريق الذي يتخذه الناس الراحلون عادة، وهو طريق الطبيعة، وهو الطريق إلى الواقع المطلق النهائي. وتتكون كلمة “دي” من ثلاثة أجزاء هي: رمز يعني الذهاب/ الاتجاه نحو، ورمز يعني المستقيم، ورمز يعني القلب. ويستنتج محللو الكتابة التصويرية الصينية من هذه الكلمة عدداً من المعاني، فهي قوة أخلاقية موجّهة، وهي نفوذ، وهي فضيلة، أما كلمة “تشنغ” فلا خلاف عليها، فهي “كتاب” في كل الترجمات.
وأرجح، مجرد ترجيح، في ضوء قصائد هذا الكتاب “بالأبجدية الانكليزية وبجوارها رموز الصور الصينية” ومجموع ما يدل عليه بشكل عام، ترجمة لكلمات العنوان إلى اللغة العربية هي التالية: داو= الطريق الحق، دي= فضيلة الهدى، تشنغ = كتاب. فيصبح العنوان “كتاب الطريق الحق وفضيلة الهدى”.
كأي كتاب مغرق في القدم، تختلط في رواية أصله وأصل كاتبه الحقائق بالأساطير، إلا أن المتداول أن صاحبه هو الحكيم “لاو تسو” الذي عاش في العصر نفسه الذي عاش فيه الفيلسوف الدنيوي “كونفوشيوس” (551- 479 ق. م). ويقول بعضهم إنه سابق على الكونفوشيوسية.
ويرتب كتّابُ التاريخ لقاءً بين هذين الاثنين عبّر بعده كونفوشيوس عن إعجابه بهذا الحكيم فقال لتلاميذه: “أعرف أن الطيور تطير في السماء، والسمك يسبح في المياه، والوحوش تجري على الأرض، وأعرف أن المصائد تصلح للوحوش، والشباك للسمك، والسهام للطيور، أما التنانين فلا أعرف طريقة لاصطيادها، ولا أعرف كيف تركب الرياح والغيوم؛ في هذا اليوم رأيتُ لاو تسو، فيا له من تنين هائل!”.
الوداعة والقوة
وتقول الأسطورة إن حكيم “الطريق الحق” هذا، الذي كان يعلّم كيف أن الوداعة تغلب القوة، وكيف أن الماء يثقب الصخور، سئم الحياة وتكاليفها، فقرر اعتزال الناس. وفي طريقه إلى الجبل مع تلميذه، التقى به حارس الحدود، وحين علم بمهنته رغب إليه في أن يميل بالثور الذي كان يركبه ويكتب له هذه التعاليم. فترجل الحكيم قائلا: “من يسأل فلابد أن يُجاب”، واعتكف طوال سبعة أيام في كوخ الحارس يملي على تلميذه مجموعة من النصوص بلغت 81 نصاً، ثم ارتحل حيث لا يعلم أحد. ومن هذه النصوص تكوّن كتاب “الطريق الحق”.
إساءة فهم
ومن المفيد إيراد ما كتبه المترجم تشان- يوان تشين حول إساءة فهم هي الأكثر شيوعاً تعرض لها الكتاب، هي الاعتقاد بأن لاو تسو بكتابه هذا هو منشئ المذهب المعروف باسم “الداو”. يقول هذا المترجم، وتؤكد قوله أدلة مستقاة من أقوال صاحب الكتاب ذاته، وتاريخ الفكر الصيني، أن هذا الأمر غير صحيح. فحين كان لاو تسو يدبّ على الأرض، كان مفهوم “الداو” شائعاً وجزءاً من الثقافة الصينية قبل ذلك بآلاف السنوات.
وما فعله لاو تسو هو أنه نقل معرفة وتعاليم من سبقوه، أولئك الذي يشير إليهم بعبارة “المعلمين القدماء” أو “أساتذة الماضي”. ولم يكن يشير بهذا إلى معاصرين له كما كان مفترضاً في البداية، بل إلى أناس قدماء بالنسبة له مثلما هو قديم بالنسبة لنا. من هؤلاء الأساتذة القدماء “هوان شي” و”فو شي”، وكان هذان من أقدم حكام الصين اللذان عاشا قبل أكثر من 4700 سنة من زمننا الراهن، وقبل 2200 سنة من زمن لاو تسو. ويرتبط اسم أولهما دائماً ببواكير مذهب الداو، أما ثانيهما فينسب إليه إبداع مفهوم “الين واليانج”.
ترتيب الفصول
وبمرور الزمن فهم حكماء الصين القدماء ما كان يحاول لاو تسو عمله بكتابه، فظلوا طوال القرون السبعة اللاحقة يضيفون إلى عمله ما يعتقدون أنه ينقصه، وقاد هذا إلى بروز واقعة مثبتة تاريخياً وهي ظهور نسخ متعددة من كتاب لاو تسو، وكل نسخة منها ظلت في حالة سيولة دائمة، لأن الحكماء الذين جاؤوا بعده كانوا يغيّرون كلمات ويعيدون ترتيب الفصول. وتواصلت هذه العملية زمناً طويلا إلى ما قبل 1800 سنة، إلى أن قدم الفيلسوف الداوي “وان بي” (226- 249) شرحاً للكتاب ووضع صيغته النهائية بعد أن ثبت ما أدخله الحكماء عليه من إضافات. وظلت هذه الصيغة تعتبر الأفضل على نطاق واسع حتى اكتشفت نسخة في عام 1973 تعود إلى عصر أسرة الهان الحاكمة الذي يعتبر عصراً ذهبياً في تاريخ الصين بين عام 206 ق. م وعام 206 ميلادية.
وقادت النسخ المتعددة للكتاب بعض الباحثين المعاصرين إلى الظن أن الاسم “لاو تسو” ربما يشير إلى عدد من المؤلفين، ولا وجود له كشخصية تاريخية. أما بالنسبة لدارسي الداو فالاهتمام ينصرف إلى المذهب لا الشخص ذاته، وينظرون إلى أن المكان المركزي هو لرسالة الكتاب، ويعتبرون حامل الرسالة مجرد وسيط ناقل.