عربي وعالمي

طوابير المرتبات “تقتل” كبار السن في كردستان

في غضون 10 أيام فقط، توفي أربعة من المسنين نتيجة وقوفهم ضمن طوابير أمام المصارف الحكومية، في ظل شحّ السيولة، التي يعاني منها إقليم كردستان منذ أعوام، في وقت يتهم نواب وسياسيون الحكومة بـ”التعمد” في خلق أزمة المرتبات، وسط تحذيرات من العودة إلى نظام حكم الإدارتين

ولقيت الأربعاء، 30 مارس (آذار)، امرأة مسنّة مصرعها في منطقة جوارقورنة التابعة للسليمانية، في حادثة دهس بسيارة، عند ذهابها للمرة الثالثة للحصول على مرتبها، بعد يوم من وفاة متقاعد يبلغ من العمر (80 سنة) أثناء وقوفه في طابور أمام أحد المصارف بالمحافظة، ليرتفع عدد المتوفين من المتقاعدين إلى خمسة، أربعة في السليمانية وواحد في أربيل خلال أقل من أسبوعين، إضافة إلى تدهور الوضع الصحي لآخرين

الوفاة الخامسة تزامنت مع إضرام متقاعد من ذوي الاحتياجات الخاصة النار في جسده، إذ كان ينتظر ضمن طابور في أحد بنوك قضاء كلار التابع للسليمانية، على الرغم من محاولة بعض زملائه منعه، وفقاً لشهود عيان أشاروا إلى أن قوات أمنية كانت بالقرب من المكان نقلته إلى المستشفى

ومنذ أيام، تظهر مقاطع مصورة تبثها قنوات فضائية ويتداولها مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي، لجوء بعض المتقاعدين في السليمانية إلى الانتظار، منذ ساعات الفجر، أمام المصارف، تجنباً للانتظار لساعات أو نفاد السيولة النقدية، كما حصلت حالات اضطرت خلالها إدارة بعض المصارف إلى دفع نصف المرتب أو وقف عملية الصرف

وتعصف بالإقليم منذ عام 2014 أزمة مالية حادة، على وقع استمرار الخلافات مع بغداد حول النفط والموازنة، وانقسام بين الحزبين الحاكمين “الديمقراطي” بزعامة مسعود بارزاني، صاحب النفوذ في محافظتي أربيل ودهوك، و”الاتحاد الوطني” بزعامة بافل طالباني، المتنفذ في السليمانية، وما زال الحزبان يعانيان من آثار حكم الإدارتين الذي نشأ في أعقاب حرب أهلية منتصف تسعينات القرن الماضي، ويخوضان منذ أشهر صراعاً محتدماً على منصب رئاسة الجمهورية

احتجاجات وإضرابات

وتشهد المدن الكردية، خصوصاً المناطق الخاضعة لنفوذ حزب طالباني، تظاهرات وإضرابات شبه يومية، احتجاجاً على أزمة المرتبات وتردّي الخدمات وزيادة غير مسبوقة في الرسوم والضرائب، مع ارتفاع أسعار الوقود وشحّ الأدوية وتوقف المشاريع

ويواصل موظفون في القطاع العام بمحافظة السليمانية الإضراب، احتجاجاً على تأخير مرتباتهم، إذ لم يتقاضَ بعضهم مستحقات شهر فبراير (شباط). وفي أربيل، تظاهر العشرات من مقاتلي “البيشمركة” القدامى التابعين لحزب طالباني أمام برلمان الإقليم، للمطالبة بتحسين ظروفهم المعيشية وصرف مرتباتهم في مواعيدها المحددة وتشريع قانون موحد للتقاعد

رئيسة “هيئة حقوق الإنسان” في حكومة الإقليم منى ياقو قالت إن “طريقة صرف المرتبات التي نشهدها، تُعدّ انتهاكاً كبيراً لحقوق الإنسان”، مضيفة أن “فرقاً من الهيئة ستقوم من الآن فصاعداً بمراقبة الفروع المصرفية، لرصد أي انتهاك أو قصور قد يحدث”

غياب للشفافية

ويتبادل أعضاء ونواب من الحزبين الاتهامات حول الطرف المسبب للأزمة و”غياب الشفافية” في ملف الإيرادات العامة المستحصلة من بيع النفط والمعابر والضرائب، وقال النائب عن كتلة “الاتحاد الوطني” كاروان كزنيي إن “عائدات نفط الإقليم شهرياً تقترب من 934 مليار دينار عراقي (أكثر من 635 مليون دولار)، بينما لا يتجاوز المبلغ المطلوب لدفع المرتبات 900 مليار دينار، أي أن إيرادات النفط لوحدها تكفي لحل أزمة المرتبات”

وكشف عن “وجود نحو 20 معبراً حكومياً غير رسمي لا تحوّل إيراداتها إلى خزينة الحكومة، حسب ما ذكرت وزارة المالية، وتدخل عبرها المئات من رؤوس الماشية يومياً”، ونوّه إلى أن “لا أحد في وزارة المالية يعلم شيئاً عن حجم إيرادات معبر إبراهيم الخليل (المنفذ الرئيس مع تركيا)، وحاج عمران (المعبر مع إيران)، وهناك جهة تتعمد عرقلة دفع المرتبات وتفرض الحصار على السليمانية”، تجدر الإشارة إلى أن المعبرين المذكورين يقعان ضمن نفوذ حزب بارزاني

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في المقابل، طالب النائب عن “الديمقراطي” بهمن عبدالله، عبر منشور في موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، نواب حزب “الاتحاد” بـ”التوقف عن المزايدة”، و”العمل على تسليم الإيرادات إلى الحكومة”، وقال إن “إيرادات السليمانية ومرتبات المتقاعدين المساكين الذين يموتون يومياً في الطوابير أمام المصارف، هي مسؤولية حزب الاتحاد”، وأضاف أن “نواب هذا الحزب قبل أن يضلّلوا الناس ويطلقوا التصريحات ضد الحكومة ويدافعوا عن الفاسدين، الذين يسرقون مستحقات المتقاعدين والموظفين، عليهم أن يحققوا في مصير إيرادات منطقتهم، ويسألوا حزبهم، لماذا لا يعاني المتقاعدون في أربيل ودهوك؟ ولماذا تتوقف المشاريع في المحافظة ومن يسرق أموالها؟”

“تسعة أعوام من دون موازنة”

أكثر من 80 منظمة وشخصية في الإقليم أعلنوا إطلاق حملة للضغط على الحكومة من أجل إرسال مشروع الموازنة المعلقة منذ نحو تسعة أعوام إلى البرلمان، وقال منسق الحملة أري عبدالله للصحافيين إن “التنصل من إقرار الموازنة منذ سنوات يهدد تجربة الحكم في الإقليم بالضياع، ويتسبب في تفاقم الفساد وعدم الشفافية في التصرف بالنفقات والإيرادات، مع فقدان ثقة المواطن بالحكومة، والخشية من العودة إلى نظام حكم الإدارتين”، لافتاً إلى أن “البرلمان يعاني التعطيل في نقطتين أساسيتين، عدم إقرار مشروع الموازنة ومراقبة عمل الحكومة”، ودعا الحكومة إلى “التوقف عن اتخاذ الأزمة المالية والخلافات مع بغداد مبرراً لعدم تقديم مشروع الموازنة”

وأعلنت اللجنة المالية النيابية عقب اجتماع عن “تشكيل لجنة فرعية للوقوف على المقترحات المتعلقة بالآلية المعتمدة في دفع مرتبات المتقاعدين وحل الأزمة في أقرب وقت”، معربة عن الامتعاض من “عدم تقديم الحكومة لمشروع الموازنة إلى البرلمان”

وما زال بعض الموظفين في نطاق محافظة السليمانية لم يستلموا مرتباتهم لشهر فبراير، بخلاف محافظتي أربيل ودهوك، اللتين تستعدان لإطلاق مرتبات شهر مارس، على الرغم من أن عملية دفع المرتبات عموماً تجري ببطء شديد وتأخير يصل إلى 45 يوماً

اختفاء الأموال

وسائل إعلام مقربة من زعيم حزب طالباني ذكرت أن “حكومة بغداد أرسلت أخيراً سلفة شهرية إلى حكومة الإقليم، التي قالت إنها ستدفع ما تبقّى من مرتبات شهر فبراير، لكنها لم ترسل الأموال إلى السليمانية لحدّ الآن”. في المقابل، يقول نواب ووسائل إعلام تابعة لحزب بارزاني إن “تأخير دفع مرتبات الموظفين، وعدم توافر السيولة النقدية في بنوك السليمانية، يعود إلى تحكم طرف ما بإيرادات المحافظة”

من جهته، شدد بافل طالباني في بيان عقب اجتماع طارئ عقده ببغداد مع المدير العام للمصرف المركزي في السليمانية، عبد الرحمن صالح رشيد، على أنه “لن يقبل مطلقاً ما يحدث للمتقاعدين، فهو واجبكم أن تقدّموا لهم الاحترام وتوفروا لهم كل التسهيلات”، وقال، “إذا لم تستطِع الحكومة حل هذه الظاهرة المتخلفة، فإنه يجب الاعتراف صراحة بذلك”، متسائلاً، “كيف يمكن التعامل بهذا الأسلوب البعيد من الإنسانية مع المتقاعدين على الرغم من تأخر مستحقاتهم”

وتتزامن التطورات مع إعلان رئيس حكومة الإقليم مسرور بارزاني، خلال مشاركته في القمة العالمية للحكومات المنعقدة في دبي، عن حجم صادرات حكومته من النفط، وقال إن “الإنتاج يصل إلى نحو 500 ألف برميل يومياً”، في حين صرّح نائبه عن حزب “الاتحاد” قباد طالباني، المشارك في القمة أيضاً، أن حكومة الإقليم “تواجه أزمة مالية صعبة، ونحن نتعرض لضغوطات، لذا علينا جميعاً العمل معاً لتجاوز الأزمات”

أزمة متعمدة

ورفع 13 نائباً مذكرة إلى رئاسة البرلمان، طالبوا خلالها “بتقديم إيضاح حول التأخير في دفع المرتبات، وعدم تخصيص أموال من عائدات النفط والإيرادات المحلية للمرتبات والنفقات والمشاريع، إلى جانب نقص الأموال في مصارف السليمانية”، وأكدوا أن “الإيرادات النفطية والداخلية في أفضل حالاتها، بالمقارنة مع العقد الماضي، في حين لا يتم دفع المرتبات وفق مواعيدها، فضلاً عن عدم دفع مستحقات الشركات الخدمية كما يجب، ولا يتم تفعيل المشاريع المتوقفة والمصارف لا تملك السيولة”

النائب علي محمد صالح، الذي يقدّم بيانات دورية حول الإيرادات، كشف عن أن “لدى الحكومة الأموال الكافية لصرف مرتبات شهر مارس، ولديها زيادة، وعلى الرغم من ذلك، تماطل في إطلاقها لكي تتهرب من دفع المرتبات قبل عيد الفطر”، وقال، “في السليمانية، لم يُدفع قرش واحد من إيراداتها الداخلية للمرتبات، ونحن نعيش الآن في ظل إدارتين منفصلتين، بينما بالإمكان تسديد ما تبقّى من المرتبات المتأخرة لبعض المؤسسات في المحافظة من إيرادات معبر برويز خان (الحدودي مع إيران)”، وشدد صالح على أن “حجم الإيرادات يفوق ما نحتاج إليه للمرتبات، بناء على ما أعلنه رئيس الحكومة، إذ إن سعر برميل نفط برنت لشهر مارس سجل 117 دولاراً، ويباع برميل نفط الإقليم بـ 10 دولارات أقل من سعر برنت، أي بـ107 دولارات”، وأوضح أن “رئيس الحكومة أقرّ بأن ما يتبقى من إيرادات النفط للإقليم يبلغ نحو 41 في المئة، أي أنها حصلت على 658 مليون دولار، في حين أن الأموال المطلوبة لدفع المرتبات لا تتجاوز 600 مليون دولار، هذا باستثناء الإيرادات الداخلية، والمبلغ الذي ترسله بغداد”

وسائل إعلام تابعة لحزب بارزاني ذكرت أن البنك المركزي في السليمانية طلب من وزارة المالية أن ترسل الأموال لإتمام دفع مرتبات شهر فبراير، إلا أن الوزارة رفضت، وقالت إن المبلغ المرسل من بغداد مخصص لمرتبات شهر مارس، وعلى السليمانية أن تسدّ العجز من إيراداتها المحلية،

إلا أن عضو مجلس السليمانية زياد كاكه قال، “منذ أشهر، تتحجج إدارة السليمانية بعدم توافر السيولة في المصارف، لا أحد يصدق أن المحافظة لا تملك إيرادات، لماذا لم تكُن تواجه أزمة مماثلة سابقاً”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى