انفجار الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي: ما ( وراء الأحداث ) وما بعد غزة
ما يجري ليس مجرد جولة قتال جديدة بين حماس وإسرائيل ولا يمكن حصره تحت عنوان واحد هو «حرب غزه ».
إنه انفجار للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي التاريخي والمزمن، ونقطة تحول في مسار هذا الصراع.
ولذلك، فإن وقف النار حتى لو تحقق بعد أسابيع في غزة لا يعني وقفا لهذا الصراع في تجلياته الجديدة غير المسبوقة، ولا يعني العودة الى الوضع السابق، لأن ما بعد «انتفاضة القدس» لن يكون مثل ما قبلها. هذه الاستنتاجات والخلاصات يمكن تفصيلها وتفسيرها في النقاط التالية:
1 ـ ليست المرة الأولى التي تندلع فيها حرب بين إسرائيل وحماس في غزة، حدث ذلك في أعوام ـ 2008 2009 و2014، ولكنها المرة الأولى التي تكون فيها كل الساحة الفلسطينية معنية ومنخرطة في المواجهة على مجمل التراب الفلسطيني وفي كل فلسطين المحتلة.
لعل أبرز ما أسفرت عنه هذه الجولة هو «التلاحم والوحدة» بين الفلسطينيين، ليس على المستوى السياسي وبين الحركات والقيادات، وإنما على المستوى الشعبي بين مختلف المناطق المقطعة الأوصال، والشعب الموزع بين قطاع وضفة وداخل (عرب الـ 48) الشعب الفلسطيني سبق قياداته هذه المرة وانتفاضته الشاملة أعادت الاعتبار للصراع التاريخي مع إسرائيل وللقضية الفلسطينية التي استحالت صراعا على السلطة بين حماس وفتح وبين غزة والضفة.
2 ـ للمرة الأولى منذ العام 1967 يكون فلسطينيو الداخل «الـ 48»، أي الذين يعيشون في إسرائيل، جزءا من انتفاضة فلسطينية عارمة ضد الاحتلال، ومن مواجهات مباشرة مع المستوطنين حملت ملامح «حرب أهلية».
وهذا يعني أن كل الجهود والمشاريع الإسرائيلية لـ«دمج وتذويب» فلسطينيي الـ48 في المجتمع والكيان الإسرائيليين قد فشلت، وأن الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين عاد الى جذوره وبداياته، صراعا تاريخيا بين شعبين وهويتين على أرض واحدة.
وهذا التطور هو الذي فاجأ القيادة الإسرائيلية أكثر من أي شيء آخر ولم يكن في حساباتها وتوقعاتها، فاعتبرت أن ما يجري في اللد وعكا وحيفا ويافا وغيرها من صدامات ومواجهات هو أخطر وأدهى من الصواريخ التي تطلق من غزة على تل أبيب وعسقلان وغيرها.
3 ـ القدس المحتلة، شرارة الحرب الراهنة، تبقى هي مركز الصراع الفلسطيني -الإسرائيلي وفي أساسه وجوهره.
وما حدث يؤكد أن مسألة القدس لا تحل ولا تحسم بقرار أميركي كالذي اصدره الرئيس السابق دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها.
4 ـ القضية الفلسطينية تستعيد «مكانتها واعتبارها»، بعدما أصبحت قضية منسية ومهملة، على الأقل منذ تفجر حروب وأزمات «الربيع العربي» الذي جعل الأنظمة والدول العربية تنكفئ على نفسها ومشاكلها وقضاياها.
جاءت هذه الأحداث لتكشف وتعلن أن القضية الفلسطينية مازالت «حية ترزق»، وأنها القضية الثابتة والدائمة، فيما كل الأزمات والقضايا الأخرى متحركة وظرفية، وأنها في أي وقت يمكن أن تتحول الى مصدر تهديد لأمن واستقرار المنطقة.
5 ـ التطورات الميدانية والعسكرية بين إسرائيل والفلسطينيين تلغي أو تتجاوز عمليا مفاعيل ومبادئ «صفقة القرن» التي أطلقها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
وإذا صح أن عملية واتفاقيات التطبيع بين إسرائيل ودول خليجية وعربية هي من نتائج أو مقدمات «صفقة القرن»، فإن هذه العملية أصيبت بانتكاسة بسبب هذه التطورات التي تفرض على الدول العربية المنخرطة في هذه الاتفاقيات إعادة تقييم للوضع وباتجاه تعديل خطابها السياسي وإبطاء وتيرة أو إيقاع التطبيع والعلاقة في ضوء متغيرين: دخول إسرائيل مرحلة «اللااستقرار الداخلي»، وتنامي مشاعر الرفض والكراهية في الشارع العربي ضد إسرائيل.
6 ـ الملف الفلسطيني يدخل عنوة على الأجندة الأميركية ولائحة الأولويات لإدارة الرئيس جو بايدن، مزاحما الملف الإيراني وربما مرادفا له. والفارق بين الإدارتين السابقة والحالية، أن ترامب تصرف من خلفية «حسم» الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ووفق ما ينسجم مع مطالب إسرائيل ومصالحها.
فيما بايدن يتصرف من خلفية «إدارة الصراع» بما يبقيه مفتوحا على المواجهات والمفاجآت.. وإذا كان «حسم ترامب» جرى تحت عنوان «صفقة القرن» التي أعلنت في ولايته الأولى لتنفذ في ولايته الثانية التي لم تتحقق، فإن «إدارة بايدن للصراع» تجري تحت عنوان استئناف المفاوضات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، ولكن في ظل ظروف معقدة ومناخات متطرفة تجعل أمر استئناف المفاوضات صعبا ومتعذرا.
7 ـ أبرز ما كشفته الجولة الحالية على المستوى العسكري هو تنامي القدرات الصاروخية لدى حماس و«الجهاد الإسلامي» كما ونوعا.
في السابق، وبما في ذلك جولة 2014، كانت صواريخ حماس تشكل مصدر إزعاج لإسرائيل ولا تصل إلا الى كيلومترات محدودة في غلاف ومحيط غزة.. الآن صارت تشكل مصدر تهديد لإسرائيل وتغطي كل مدنها القريبة (عسقلان وبئر السبع) والبعيدة (القدس وتل أبيب)، وتطول كل مطاراتها.
وهذا التطور الصاروخي يكشف مدى تغلغل إيران ومشروعها ونفوذها في غزة.
وما فعلته إيران عبر الحرس الثوري وفيلق القدس مع حزب الله في لبنان ومع الحوثيين في اليمن، فعلت مثله مع حماس و«الجهاد الإسلامي»، وتوصلت عبر استراتيجية نقل الصواريخ والخبرات الى تغيير المعادلات وقواعد الاشتباك والصراع، وإقامة توازن الرعب.
حماس تخوض حربا غير متكافئة مع إسرائيل، وما تمتلكه من صواريخ لا يكفي لتضيق الفجوة الهائلة.. ولكن حماس لا تستقوي فقط بصواريخها وإنما بمعادلة عامة جعلت أن حماس ليست وحيدة ومستفردة في هذه المواجهة، وإنما تستفيد وتستقوي بتعاطف الشعب الفلسطيني كله مع غزة، وفق معادلة: ربط القدس بغزة وربط غزة بفلسطين (غزة تدافع عن القدس، والفلسطينيون يدافعون عن غزة).
ويشبه وضع حماس في هذه الحرب الوضع الذي كان فيه حزب الله في حرب يوليو 2006، ومستقبلها يتوقف على صمودها والطريقة التي تخرج بها من هذا «الامتحان الحاسم».
8 ـ الساحة الفلسطينية دخلت في مرحلة جديدة.. ومقبلة على تغييرات في الخيارات وفي الخارطة السياسية.. ما يجري يصب في خدمة القوى الفلسطينية (حماس والجهاد وغيرها)، ويضعف حركة فتح والسلطة التي تواجه ضغوطا هائلة من الشارع الفلسطيني، تبدأ من وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل وتصل الى التخلي عن اتفاقات أوسلو وما يعنيه كل ذلك من تغليب خيار المقاومة على خيار المفاوضات.
وهذا ما يجعل أن حركة فتح التي تجاوزتها الأحداث وتحاول اللحاق بها واستيعاب الموقف، صارت معنية أكثر بإحباط مشروع الانتخابات التشريعية والرئاسية في ظل ظروف غير مؤاتية لها، وأن حماس، تتهيأ لمشروع التمدد باتجاه الضفة الغربية والانتقال من مرحلة التغلغل الأمني المخابراتي الى مرحلة التوغل الشعبي والسياسي، على أن تكون الترجمة الأولى في الانتخابات المقبلة، وبما يفضي الى حصولها على أكثرية برلمانية في المجلس التشريعي، وعلى كسر احتكار فتح للسلطة والحكومة ومنظمة التحرير، وبالتزامن مع كسر التصنيف الإرهابي لـ«حماس» وإبراز الوجه الآخر لها كـ«حركة مقاومة».
9 – إسرائيل لحقت بها إصابات مباشرة على كل المستويات، وحدثت فيها اهتزازات وتحولات عميقة.. يكفي أن تجد نفسها في وضع أشبه «بالحصار.
فمن جهة تصبح غزة المحاصرة هي «المحاصرة» لمجرد أن صواريخها أغلقت المجال الجوي والمطارات وقطعت تواصل إسرائيل مع العالم الخارجي.. ومن جهة ثانية، تجد إسرائيل المندفعة باتجاه ترويض وتطويع غزة، أن «ظهرها» غير محمي وأن جبهتها الداخلية تعاني من تصدعات وتشققات، ليس فقط بسبب أزمتها السياسية والحكومية المفتوحة، وإنما أيضا، وهذا هو الأهم، بسبب انتفاضة فلسطينيي الداخل وعودتهم الى هويتهم الوطنية والتاريخية.
على المستوى الأمني العسكري، تجد إسرائيل نفسها أمام وضع جديد وحرب جديدة لا تخاض بوسائل وخطط تقليدية عندما تجتمع وتتداخل فيها الصواريخ والحجارة والمواجهات والتظاهرات.
وعلى المستوى الاقتصادي، تجد إسرائيل نفسها أمام خسائر وتراجعات مباشرة وقوية، وهي بعد لم تخرج من تداعيات وآثار جائحة كورونا وأثمان «اللااستقرار السياسي».
وهذا ما بدأ يترجم بانخفاض التصنيف الائتماني للاقتصاد الإسرائيلي وبـ«فرملة» المشاريع والاستثمارات الخارجية، وتفاقم شعور «اللاأمن واللاأمان» عند الإسرائيليين الذين سينزعون على مدى متوسط وبعيد الى «الهجرة» من إسرائيل في حال أصيبت بعنصر قوتها الأساسي «الأمن والاستقرار».
على المستوى السياسي، سيقوى التطرف أكثر في إسرائيل، ومعه يقوى تأثير ونفوذ «المستوطنين» واليمين المتطرف، ويتلاشى ما تبقى من دور ونفوذ لـ«اليسار والوسط».. وهذا يرتب نتيجتين:
الأولى: أن مهمة زعيم المعارضة مائير لابيد في تشكيل الحكومة، بعدما آلت إليه ورقة ومهمة التأليف، صارت أصعب وشبه مستحيلة بعدما خلطت الحرب أوراق الحكومة وأسقطت احتمال وإمكانية التعاون بين لابيد والنواب العرب (القائمة المشتركة والحركة الإسلامية).
الثانية: أن بنيامين نتنياهو، الخارج للتو من ضفة الحكومة الى ضفة الحرب، توافرت له فرصة سانحة لإعادة تعويم نفسه وتجميع قوى اليمين من حوله، عبر قيادة هذه المواجهة الشاملة، وبعدما صارت الأولوية المطلقة للموضوع الأمني.. ولكن نتنياهو ومستقبله السياسي يتحددان في ضوء نتائج هذه الحرب وما يصيبه من نجاح أو فشل في إدارتها، وما تنتهي إليه من اتفاقات ومعادلات.
وعلى المستوى الاستراتيجي، تجد إسرائيل نفسها أمام مأزق وأزمة كبيرة، ومن المؤكد أن إسرائيل تواجه أدق الأوضاع وأخطرها، وأزمة معقدة مبنية على تراكمات ومفتوحة على آفاق «أزمة وجودية».
10 ـ إيران هي الدولة الأكثر متابعة لانفجار الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، والمعنية أكثر من غيرها بالنتائج والمسارات الجديدة، وربما هي المستفيدة الأولى من هذه الحرب.
في ضوء كل ما تقدم، يمكن التوصل الى الاستنتاج التالي:
أولا: هذه ليست جولة قتال بين حماس وإسرائيل في تعداد جولات سابقة ولاحقة.. هذه «حرب» نوعية ومفصلية ستكون لها أبلغ الأثر في مسار الصراع وفي افتتاح مرحلة جديدة.
ثانيا: إسرائيل سجلت إخفاقا استخباريا في رصد وتقدير المؤشرات الفلسطينية في غزة والداخل.
ومحور المقاومة يبالغ ويتسرع في توقع انجازات و«انتصارات» والتسويق لها.
وهناك أبعاد جديدة للمواجهة الدائرة تتجاوز ساحة غزة وصراع إسرائيل مع حماس الى مجمل الساحة الفلسطينية ومسألة الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني التاريخي.
ثالثا: هذه «الحرب» غير التقليدية لا تصل الى «نهايات تقليدية» وإنما تكون مدخلا الى بدايات جديدة، والأمر لا يتوقف على اتفاق وقف النار ولا ينتهي معه.
فإذا كانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى أدت الى قيام سلطة فلسطينية عاصمتها رام الله، والانتفاضة الفلسطينية الثانية أدت الى خروج إسرائيل من غزة وقيام معارضة فلسطينية على أرضها، فإن الانتفاضة الثالثة على يد «الجيل الثالث»، جيل الأحفاد الذين ورثوا صراعا تاريخيا مزمنا من الآباء والأجداد، ستؤدي الى وضع جديد لا يمكن تحديد ماهيته وطبيعته من الآن.
والواضح أن إسرائيل في «ورطة»، وأنها ستسعى سريعا لإيجاد مخرج (EXIT) ولاستيعاب الصدمة والوضع الفلسطيني الجديد.. ولكن المهمة صعبة وتحقيق هذا الهدف لن يكون سهلا ولا سريعا.