قد يفوز نظام كهف النجم المظلم Dark Star الواقع في زاوية نائية من أوزبكستان ذات يوم بلقب “أعمق كهف في العالم”، ففي داخل هذه المتاهة الجوفية تربض كبسولات زمنية جيولوجية تختزن أسرار مناخ الأرض في الماضي والمستقبل.
“إنه مشكّل من الألوان، البرتقالي، والأحمر، والأصفر… بدا الأمر أشبه بالسير في جبال الألب في الخريف. مدهش حقا”. بهذه الكلمات يصف الجيولوجي بواز لانغفورد أحد الكهوف الشاسعة في نظام النجم المظلم الكهفي الضخم داخل سلسلة جبال “بایسون-تاو” في منطقة معزولة من أوزبكستان. كان لانغفورد ضمن الفريق الدولي للعلماء وعمال الكهوف الذين استكشفوا النظام الكهفي في عام 2014، عن ذلك يقول: تدخل أحد الفروع فتستقبلك بحيرات متجمدة، وفي مكان آخر تتدفق شلالات هائلة. تنوع المشاهد لا يصدق. كل منطقة تختلف عن الأخری. النجم المظلم فريد من نوعه. لا مثيل له على الإطلاق. أنا عالم، ولست شديد التدين، ولكن في هذا المكان ما يدعو إلى التأمل”.
أبقى عدم الاستقرار السياسي وموقعه البعيد العمق کهف النجم المظلم، الذي سمي على اسم فيلم خيال علمي كوميدي أنتج في عام 1974 متواريا عن أعين البشر، لكن في عام 1990، تمكن فريق بريطاني من الوصول إلى أحد مداخله، وبدأت عملية استكشاف هذا العالم السفلي المظلم. ومنذ ذلك الحين، اكتشف نحو 17 كم من الممرات، إلى جانب مداخل إضافية، لكن كل الفتحات تقع عاليا في منتصف المسافة على منحدر من الحجر الجيري يبلغ ارتفاعه 200 م. ومجرد الوصول إلى المخيم الرئيس عند سفحه، هو في حد ذاته، رحلة طويلة.
التقى لانغفورد وزملاؤه بقية أعضاء فريق الرحلة الاستكشافية في العاصمة الأوزبكية طشقند. حملوا معداتهم على متن حافلة اجتازت بهم مسافة 160 كم على طول جزء من طريق الحرير القديم باتجاه سمرقند، قبل أن ينتقلوا إلى شاحنة بست عجلات ويتجهوا جنوبا عبر السهول القاحلة في اتجاه منطقة بايسون على الحدود الأفغانية، تركوا الشاحنة عند سفح سلسلة جبال بایسون تاو، وواصلوا سيراً على الأقدام مدة يومين، بعد أن حملوا معداتهم على ظهور الحمير.
يقول لانغفورد: “كان الطريق وعرا جدا لدرجة أن حمارا سقط عن جرف ونفق… كان على أحد أعضاء الفريق النزول إلى حيث وقعت البهيمة المسكينة لاستعادة معداتنا”.
في النهاية وصل الفريق إلى نقطة كان من الصعب جدا على الحمير الاستمرار بعدها، فحملوا معداتهم بأنفسهم ما تبقى من الطريق وصولا إلى معسكر التخييم الرئيس. من المعسكر كان لا يزال عليهم السير مدة ساعتين، ثم التسلق بمساعدة الحبال مسافة 100م. للوصول إلى مداخل النجم المظلم.
ساعة المناخ
لماذا يتكبد العلماء عناء السير أياما عدة عبر تضاريس وعرة للوصول إلى ذاك الركن البعيد من أوزبكستان؟ ما الذي يتوقعون العثور عليه في أعماق ذاك الكهف ليستحق كل هذه الشقة؟
تحبس رواسب الكهوف المعدنية المعلومات المتعلقة بمناخ الأرض في الماضي والمستقبل، فهي تتكون من المياه المتدفقة أو المتساقطة المحملة بالمعادن مثل الكالسيت والأراغونیت والجبس، وبمرور الوقت تتراكم المعادن لتشكل تكوينات صخرية تسمى الصواعد والهوابط.
يقول د. سيباستيان بریتینباخ عالم المناخ القديم من جامعة نورثمبريا الذي يعمل حاليا على عينات من كهف النجم المظلم: “بتحليل رواسب الكهوف المعدنية، يمكنني الذهاب إلى الماضي ومعرفة مزيد حول الكيفية التي تطور وفقها المناخ المحلي، وكيف يعكس ذلك التغيرات الإقليمية أو العالمية”.
ويتابع: “من المخيم، مازال عليهم السير مدة ساعتين ثم التسلق بمساعدة الحبال مسافة 100م، للوصول إلى مداخل النجم المظلم”
ويضيف: “تعود الساعة الكربونية المشعة” المعتادة فقط إلى ما يقرب من 40 إلى 50 ألف سنة ثم تتوقف، لأنه لا يتبقى بعد ذلك کربون مشع يمكن احتسابه. لدينا قليل جدا من المعلومات حول المناخ الماضي من حيث التسلسل الزمني لما هو أبعد من 40 ألف عام مضت، لكن الميزة الرائعة لاستخدام رواسب الكهوف هي أنه يمكننا نظائر مشعة Radioactive isotope أخرى، مثل اليورانيوم الذي لديه سلسلة اضمحلال أطول. هذا يعني عمليا أنه يمكننا تتبع الوقت بدقة إلى نحو نصف مليون سنة مضت”.
ويتابع: “يمكن العثور على كل من اليورانيوم والرصاص في الصواعد، ويمكننا حتى العودة أبعد إلى الوراء إذا استخدمنا اليورانيوم – الرصاص، لأن الرصاص مستقر- نظريا يمكن أن نعود إلى الانفجار الكبير (العظيم) Big bang. وبمجرد الحصول على التواریخ، يكون لديك تسلسل زمني. ويمكننا استخدام معالم مناخية للنظر في الكيفية التي تطور وفقها المناخ والبيئة باختصار، الصواعد هي أرشيفات مناخية رائعة، لأنها تنمو في الكهوف في معظم أنحاء العالم، من دون أن تتعرض نسبيا لأي تدخل على مدى ملايين السنين، معزولة عن العوامل الخارجية، مثل أحوال الطقس المتطرفة، والتدخل البشري أو الحيواني، لكن الحصول على عينة جيدة من هذه المواقع البعيدة وإحضارها إلى المختبر قد يكون أمرا صعبا، إذا انكسر الصاعد، فستكون رحلة العودة طويلة ومضنية للحصول على عينة أخرى.
التنبؤ بتغير المناخ
يمكن استخدام كل سجلات المناخ القديم هذه لفهم الماضي والتنبؤ بالمستقبل، في الواقع يستخدم الأركيولوجيون النتائج التي توصل إليها بريتينباخ لحل لغز طرق هجرة الإنسان الحديث Modern humnans وأسلافه ذهابا وإيابا عبر آسيا، وما الذي دفعهم إلى الانتقال؟
يقول بريتينباخ: “يرغب الأركيولوجيون في فهم الكيفية التي تفاعل وفقها البشر مع الطبيعة، وكيف يؤثر المناخ في القرارات المتعلقة بتوقيت انتقالهم وكيف ولماذا فعلوا ذلك؟. لم تكن درجة الحرارة مشكلة الإنسان الحديث سواء إنسان دينيسوفان أو إنسان نياندرتال، الأساس كان توافر المياه. سجلات المناخ القديم المبنية على الصواعد هي أفضل رهان لدينا لاكتشاف الفترات الزمنية المناسبة لسكن الإنسان، وانها كانت أكثر قسوة.
في هذه الأثناء يستخدم العلماء أيضا سجلات المناخ القديم من رواسب الكهوف للتنبؤ بتغير المناخ في المستقبل، والأهم من ذلك إمدادات المياه في المنطقة تمثل سلاسل الجبال مثل جبال الهيمالايا في جوهرها أبراج المياه في العالم.