أخبارالصحة

الطبيعة الخضراء… علاج وسعادة!

بدءاً من حدائق بابل المعلقة، وصولاً إلى حدائق البرتقال في إشبيلية، استوحى مخططو المدن تصاميمهم من الطبيعة على مر العصور. لم يكن المقيمون وسط المباني يقدّرون على الأرجح أهمية المساحات الخضراء قبل زمن كورونا. خلال فترة الإقفال التام، اكتشف سكان المدن حول العالم أن الحدائق قد تشكّل مصدراً غير متوقع للهدوء والسعادة. هذا الاستنتاج ليس مفاجئاً برأي عدد متزايد من علماء النفس والبيئة الذين يحللون آثار الطبيعة على الحالة النفسية والصحة العامة. تبدو الروابط التي بدؤوا يرصدونها معقدة وغير مفهومة بالكامل بعد، لكنها تكشف في الوقت نفسه أن تواصل الناس مع الطبيعة بدأ يتراجع في العالم المتحضر اليوم، ويواجه معظم المحرومين اجتماعياً واقتصادياً أكبر العوائق. من خلال فهم كيفية تخضير مدن العالم سريعاً وتأثير الطبيعة على صحة البشر، من الأسهل على الأرجح كبح اللامساواة الاجتماعية، وتعزيز التنوع البيولوجي الذي نتكل عليه جميعاً.

تقول إحدى النظريات إن مفعول الطبيعة على الصحة النفسية يتأثر بالصحة الجسدية: يكون سكان المدن المقيمون بالقرب من مساحات خضراء معتادين على ممارسة الرياضة أكثر من غيرهم بكل بساطة، ما يسهم في تحسين صحتهم النفسية. لكن تذكر معظم الأبحاث نتيجة مختلفة. في ثقافات كثيرة، لا يرتبط التوجه إلى المساحات الخضراء بالنشاطات الجسدية بقدر ما يتعلق بالنشاطات الاجتماعية الجامدة مثل افتراش الأرض لتناول الطعام وسط الطبيعة. لكن قد تفسّر هذه النشاطات أيضاً منافع الطبيعة، لأن التواصل الاجتماعي قد يخفف مشاعر الوحدة والقلق والاكتئاب. لا شك في أن المشاركة في أي جماعات دعم تفيد الصحة النفسية، وتثبت الأبحاث أن المساحات العامة الجميلة تشجّع الناس على بناء أحياء متماسكة.

بالإضافة إلى المنافع النفسية، نعرف أن المساحات الطبيعية الصحية تعطينا مجموعة كاملة من “الخدمات البيئية الأساسية” مجاناً، بدءاً من الهواء النظيف والمياه العذبة، وصولاً إلى إعادة تدوير المغذيات وأنظمة الدفاع خلال الفيضانات وتلقيح النباتات.

في الحالة المثلى، يجب أن نحاول تفعيل منافع التنوع البيولوجي أيضاً عند تصميم البيئات الحضرية وإعادة تشكيلها. لكن كيف يمكن تحقيق هذا الهدف؟

يقول عالم البيئة كارل إيفانز من جامعة شيفيلد في بريطانيا: “لا مفر من حصول مقايضة معينة في هذا المجال، لأن المدن تحتل مساحات كبيرة من الأراضي، وقد يكون بعضها برياً. لذا، تُعد ظاهرة التحضر سبباً أساسياً لزيادة مخاطر الانقراض حول العالم”.

في غضون ذلك، لا يزال مفهوم علم البيئة الحضرية الذي يمكن أن يتكل عليه المخططون الراغبون في الحفاظ على الطبيعة غير واضح بالكامل. في عام 2017، سلّط إيفانز وزملاؤه الضوء على مسائل جوهرية لا تزال عالقة، منها حجم المساحات الخضراء، ومدى ترابطها وتنوعها في المدن لتعزيز التنوع البيولوجي. يحتاج عدد كبير من أجناس الحيوانات إلى أنواع مختلفة من الموائل الطبيعية للتكاثر فيها. برأي إيفانز، لا يتعلق أهم عامل بحجم تلك المساحات فحسب، بل بنوعيتها أيضاً.

يقول إيفانز إن نصف المساحات الخضراء في المدن البريطانية تقريباً تكون عبارة عن عشب مجزوز، ويتكرر هذا النمط في عدد كبير من المدن الغربية. هو يقترح تحويل هذه المساحات إلى مروج أو زرع أشجار إضافية. في دراسة حول المروج في مدن جنوب إنكلترا، اكتشف فريقه أن الناس يتجاوبون بإيجابية مع المروج المتنوعة بيولوجياً أكثر من الأعشاب المجزوزة. كذلك، تستنتج دراسة جديدة أشرفت عليها مهندسة المناظر الطبيعية، آنا جورغنسين، من جامعة شيفيلد أن سكان المدن، في بريطانيا على الأقل، يقدّرون أهمية التنوع عند وجودهم في الطبيعة أكثر من أي عامل آخر.

كذلك، لا نعرف حتى الآن إذا كان رفع مستوى التنوع البيولوجي مرادفاً لزيادة المنافع التي يكتسبها سكان المدن على مستوى الصحة النفسية. لكن تدعو نتائج الدراسات الأخيرة، رغم عدم اكتمالها، إلى تخضير المدن.

يقول الطبيب النفسي مارك بيرمان من جامعة شيكاغو: “يعتبر الناس الطبيعة جزءاً من الكماليات، بدل أن تكون من الضروريات، لكننا نحتاج إليها جميعاً، ويجب أن نتعامل معها بأعلى درجات الجدية”. توافقه الرأي المهندسة البيئية آنو راماسوامي من جامعة برينستون، فتقول إن المساحات العامة الخضراء هي واحدة من سبعة أنظمة للإمدادات الأساسية في المدن، إلى جانب تأمين الملاجئ والمياه والغذاء والطاقة والتواصل والصرف الصحي.

تظن راماسوامي أن الطبيعة تساوي هذه الخدمات بأهميتها، ويحتاج الناس في حياتهم إلى المساحات الخضراء.

لطالما أخذ المخططون العمرانيون هذا العامل بعين الاعتبار، بدءاً من نظرية المدينة الحدائقية في بريطانيا في مطلع القرن العشرين، وصولاً إلى الخطة المطروحة حديثاً لتحويل الشانزليزيه في باريس من شارع مزدحم إلى واحة خضراء. يشكّل فهمنا المتزايد لمنافع الطبيعة الصحية الواسعة واستمرار أزمة كورونا راهناً جرس إنذار لتطبيق هذا الدرس على نطاق أوسع.

يضيف بيرمان: “لقد أثبت الوباء المستجد أننا لا نتواصل مع الطبيعة بما يكفي”. ينطبق هذا الوضع تحديداً على الناس في أكثر الجماعات حرماناً اجتماعياً واقتصادياً.

وتقول راماسوامي: “يتوقف الوصول إلى المساحات الخضراء على المداخيل”. يكشف استطلاع جديد أجرته هيئة ناتشرال إنغلاند، مثلاً، أن الأولاد في العائلات ذات الدخل المنخفض يمضون وقتاً أقل في الخارج، وسط المساحات الخضراء، خلال زمن الوباء، مقارنةً بأبناء العائلات ذات الدخل المرتفع.

في غضون ذلك، كشفت دراسة أجراها بيرمان وزملاؤه في تورونتو، كندا، أن إضافة عشر أشجار فقط إلى الحي السكني في المدينة تؤثر بشدة على نظرة الناس إلى صحتهم وراحتهم، بما يوازي أثر اكتساب 10 آلاف دولار إضافية لكل أسرة. لو أصبح تخضير المدن من الأولويات الاستثمارية، كان أثره الإيجابي ليتّضح سريعاً وكان الناس الأكثر حرماناً ليصبحوا من أكبر المستفيدين.

ما هو شكل المدينة الخضراء المستقبلية إذاً؟ تجيب راماسوامي: “أتصور أن هذه المدن ستكون متراصة، ويسهل المشي فيها. يجب أن تنشأ مبانٍ من أربعة أو خمسة طوابق ضمن نسيج صالح للعيش. هذه هي القاعدة الأساسية. ثم يمكن إضافة مساحات خضراء يسهل أن يصل إليها الجميع بالتساوي”.

يشدد بيرمان، من جهته، على أهمية إعطاء طابع متعدد الأهداف للمساحات الخضراء، كي تلبّي مجموعة متنوعة من الحاجات. هو يفضّل أيضاً إضافة عناصر طبيعية أخرى إلى البيئة البنيوية، مثل الأسطح الخضراء، أو حتى تصميم مبانٍ تحمل أنماطاً مشابهة لتلك الموجودة في الطبيعة (منحنيات، كسيرات…).

تكشف الأبحاث المبنية على أجهزة تعقب العين أن الناس ينجذبون إلى هذه الأشكال، ويظن بيرمان أن طريقة تعامل الدماغ مع جمال الطبيعة يعطي شعوراً معيناً بالراحة.

يحمل إيفانز الذي يدافع عن الطبيعة بحد ذاتها رؤية مشابهة، فيُشدد على بناء مجمعات متراصة لتقليص مساحة الأراضي التي تحتلها المدن: “ستكون المدينة الخضراء النموذجية بنظري مكتظة نسبياً. لكن المساحات الخضراء فيها ستبقى مترابطة جداً، وعالية الجودة، ويسهل أن تصل إليها جميع شرائح المجتمع”.

يدرك إيفانز أن هذه الرؤية ليست سهلة التحقيق، ويعترف بصعوبة تعديل المدن القائمة لتنفيذ هذه الخطة، كما أنه يشكك بأن تُبنى المناطق الحضرية الجديدة استناداً إلى هذه الرؤية: “أظن أن النقاشات المرتبطة بالتنوع البيولوجي لا تُعطى الأولوية الكافية لجعل هذا الاحتمال واقعياً”.

لكن تبدو راماسوامي أكثر تفاؤلاً بالوضع، فتقول إن النزعة إلى تخضير المدن انطلقت منذ الآن، وتشير إلى بعض الأمثلة المُلهِمة في الولايات المتحدة، منها مبادرة المليون شجرة في لوس أنجلس، وبرنامج تخضير واسع في نيويورك.

لن تكون هذه الظاهرة خاصة بدول العالم الغني حصراً، بل إن معظم النمو الحضري في العقود المقبلة سيحصل في الدول ذات الدخل المنخفض. يهدف “ميثاق ميلان للسياسات الغذائية في المناطق الحضرية” إلى تكثيف حملات تخضير المدن حول العالم، وقد وقّعت عليه 211 مدينة حتى الآن، منها عدد كبير في إفريقيا وأميركا الجنوبية ومنطقة جنوب شرق آسيا. كذلك، اعتبرت وزارة البيئة الصينية، التي نشأت في عام 2018، محاربة التلوث من أهم ثلاث معارك تخوضها، لذا دعمت بناء الحدائق وإنشاء المساحات الخضراء وممرات خاصة بالحيوانات البرية في عدد كبير من المدن. تواجه الدول ذات الدخل المنخفض تحديات كثيرة طبعاً في مشاريع التخضير، لكنها تستطيع أن تتعلم من الأخطاء المرتكبة في المدن التي شهدت نمواً قبلها في الغرب. تكثر فرص المشاريع المستدامة في المدن النامية.

نحو تخضير المدن

يفكر بعض الباحثين بطرق جديدة لتشجيع صانعي السياسة حول العالم على تقدير قيمة الطبيعة. أطلقت عالمة الأحياء غريتشن ديلي، من جامعة ستانفورد في كاليفورنيا، مفهوم الخدمات البيئية كطريقة لتقييم منافع الطبيعة والاستفادة من هذه الإيجابيات عند اتخاذ القرارات الاقتصادية. بالتعاون مع بيرمان وباحثين آخرين، نشرت ديلي مقالة في عام 2019 لتحديد طريقة تطبيق هذه المقاربة وتقييم منافع الطبيعة على مستوى الصحة النفسية في المدن.

توضح ديلي: “يعني تصاعد الضغوط على الأراضي في المدن أننا نحتاج إلى القيام باستثمارات استراتيجية”. أسست ديلي “مشروع الرأسمال الطبيعي”، الذي يطرح برامج محوسبة مجانية ومبنية على العلوم لتوجيه هذا النوع من الاستثمارات. تخضع وحدات البرمجيات المتعلقة بالصحة للاختبار في النصف الأول من عام 2021.

باختصار، ستؤثر طريقة تخطيط المدن اليوم على صحة مليارات الناس غداً!

لكن لن يكون وضع خطط تخضير المدن على رأس أولويات صانعي السياسة كافياً لتحقيق هذه الرؤية، بل نحتاج إلى حركة شعبية برأي بيرمان. تضمن مشاركة المجتمع تلبية مجموعة مختلفة من الحاجات الثقافية والمحلية. يجب أن يتخيل الناس في تلك المجتمعات رؤيتهم الخاصة.

في بعض أجزاء العالم، بدأت هذه الرؤية تتحقق. على سبيل المثال، تشمل الأحياء الفقيرة والمحرومة اقتصادياً في ريو دي جانيرو، البرازيل، حركة تشجير ناشئة. لكن يوضح بيرمان: “تتعلق مشكلة شائعة بعدم اطلاع الناس على منافع الطبيعة. يجب أن يبذل العلماء جهوداً مضاعفة للنزول من برجهم العاجي ونقل رسائلهم إلى عامة الناس. التواصل مع المجتمعات عامل بالغ الأهمية، ولن يكون أسلوب الوعظ فاعلاً في هذا المجال”.

لا تقتصر المسألة الأساسية أصلاً على المعرفة، بل يجب أن يختبر الناس أيضاً تأثير المساحات الخضراء في المدن على صحتهم وشعورهم بالراحة. يضيف بيرمان: “إذا استطعنا التدخّل لتشجيع الناس على تجربة هذا المفهوم، أظن أنهم سيقتنعون به في نهاية المطاف”.

لهذا السبب، قد يكون الوباء قوة دافعة لإحداث التغيير المنشود. تقول ديلي: “ستؤثر خططنا الراهنة والمستقبلية على صحة ملايين الناس”. وإذا نجحنا في توسيع المساحات الخضراء مجدداً، ستنشأ سلسلة إيجابية من الأحداث المتلاحقة. تذكر دراسات صينية وبريطانية جديدة أن زيادة التواصل مع الطبيعة تجعل الناس أكثر ميلاً إلى تبني سلوكيات بيئية إيجابية. إذا كان هذا الاستنتاج صحيحاً، يعني ذلك أن تخضير المدن لن يحسّن الصحة النفسية للسكان فحسب، بل إنه سيزيد تركيزنا أيضاً على حاجات الطبيعة بعيداً عن أسوار المدن الإسمنتية.

تتعدد العوامل الخارجية التي تؤثر على تقييم الرابط بين الصحة والتواصل مع الطبيعة. في المقام الأول، لابد من التساؤل: ما معنى الراحة النفسية؟ تُعرّف منظمة الصحة العالمية الصحة النفسية بما يلي: “شعور بالراحة، حيث يدرك الفرد حجم قدراته الخاصة، ويستطيع التكيّف مع ضغوط الحياة الطبيعية والعمل بطريقة مثمرة وتقديم مساهماته في المجتمع”. يصعب تقييم هذا المفهوم بطريقة عملية إذاً.

تتعلق مسألة أخرى بتعريف معنى “التواصل مع الطبيعة”. تقيس الدراسات أحياناً مستوى التواصل الجامد، أي كمية المساحات الخضراء في المنطقة التي يقيم فيها الفرد. لكن تحلل دراسات أخرى درجة التواصل الناشط الذي يشير إلى مدة التواجد وسط مساحة خضراء حقيقية. نتيجةً لذلك، يصعب أن يقارن العلماء بين استنتاجات هذه الدراسات، ويتوصلوا إلى رؤية متماسكة عن الموضوع.

حاول عدد صغير من الباحثين تقييم “الجرعة” المناسبة من الطبيعة. شملت دراسة في عام 2019 حوالي 20 ألف مشارك في إنكلترا، واستنتجت أن تمضية وقت ترفيهي في الطبيعة طوال 120 دقيقة على الأقل أسبوعياً ترتبط بالصحة الجيدة أو الشعور بالراحة.

جرى البحث تحت إشراف ماثيو وايت في جامعة إكستر البريطانية، واكتشف أن هذا المفعول يبلغ ذروته حين تتراوح مدة التواصل مع الطبيعة بين 200 و300 دقيقة أسبوعياً، لكن لم تتوسع المنافع المكتسبة بعد هذه العتبة.

لا يزال معنى هذه الاستنتاجات على المستوى الفردي غير واضح، إذ تكشف دراسات أخرى أن المنافع النفسية التي يكسبها الشخص من خلال التواصل مع الطبيعة تتأثر على الأرجح بعوامل كثيرة، بما في ذلك العُمر، والجنس، وخصائص الشخصية، والخيارات المفضّلة، والمكانة الاجتماعية، والوضع الاقتصادي. تحتل الثقافة أهمية معينة أيضاً، وقد جرت معظم الأبحاث المرتبطة بآثار الطبيعة على الصحة في المجتمعات الغربية حتى الآن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى